Quantcast
Channel: سبمبوت
Viewing all 40 articles
Browse latest View live

( سلمــــــــــــــــانة ) 19

$
0
0



للحب المتوازن الراسخ في أعماق الروح لمسة وردية على الوجدان، لم تشعر سلمانة من قبل بكل تلك الغبطة التي تتملكها ما إن تراه في الصباح الباكر يدخل من بوابة المدرسة الكبيرة، على ظهره حقيبته التي يضع فيها كمبيوتره المحمول وبعض الكراسات التي يستخدمها لجمع الملاحظات حول الطلبة وتقدمهم العملي في الصف.



-        جوناثان رجل متواضع ومستقر!



التفتت سلمانة الى الصوت الذي أتى زحفا خفيفا الى أذنها، كانت مسز كاندنس ناضرة المدرسة، بأرطالها الزائدة وجلدها الأبيض المشدود، كانت مسز كاندنس ترتدي ذلك الصباح فستان وردي فاتح وضعت فوقه كنزة رمادية مشجرة. احمرت سلمانة خجلا وهي للتو تدرك أنها كانت تنظر الى جوناثان وهو يدخل من بوابة المدرسة بعينين ملؤهما الشوق .. سألت مسز كاندنس:

-        فضحتني عيناي؟

أجابتها المخضرمة بصوت حنون ..

-        بل دقات قلبك .. سمعتها من بعيد ..

لماذا لا تتزوج الفتاة ممن تحب؟ سؤال طرحته سلمانة على هديل التي استقرت في بيت الزوجية واحترفت بفترة قصيرة دور الزوجة والمرأة على أعتاب عالم الأمومة. دار النقاش طويلا بين الصديقتين، خاضتا في العادات والتقاليد والمجتمع الذي يحشر الاختيارات أحيانا ويجعلها بحجم خرم الإبرة! على مجموعة كبيرة من الفتيات في هذا البلد ان يتقلصوا الى أصغر حجم ممكن لينفذوا من تلك الدوائر الصغيرة. عندما صرحت سلمانة لهديل عن علاقتها الجميلة المريحة الدافئة بجوناثان شهقت هديل ووضعت كفها على صدرها! كانت شهقة هديل وردة فعلها أقل ما توقعته سلمانة، حيث لم يكن في عائلتها او في محيطها من بعيد او قريب فتاة ارتبطت برجل أجنبي من خارج نطاق الجنسية الكويتية، بل في عائلة سلمانة كان خرم الإبرة اصغر بكثير من بنات بعض الأسر الأخرى. لم تتزوج الفتيات المنحدرات من أصولها العريقة إلا من مجموعة عائلات وأسر معروفة تعد على أصابع اليدين! كان حلم سلمانة في الارتباط "بمستر جوناثان" كما يناديه أطفال المدرسة أشبه بالخيال! حلم كبير وصعب المنال. كلما فكرت سلمانة بالطريقة المثلى لفتح موضوع كهذا مع والدتها أحست بحرارة تكتسي جسدها، يجتاحها العرق ويبدأ قلبها يضرب محيط جسدها النحيل بقوة. كانت سلمانة تحب جوناثان وتعلم أنه يحبها ولكنها كانت أيضا فتاة فاضلة ومطيعة على الرغم من كل محاولاتها السابقة لتكون فتاة مختلفة عمّا هي عليه. سألته يوما عندما ألقى عليها قنبلة الارتباط:

-        ماذا تعتقد أن تكون ردة فعل والدتك؟

ابتسم وأجابها:

-        ستفرح والدتي كثيرا .. لأنني أخيرا وجدت الفتاة التي أريد أن آخذها معي الى وطني وأعيش معها في بيتي الصغير.

-        لديك بيت؟

-        اشتراه لي والدي .. ربما لكي يخرس تأنيب ضميره حين تركني صغيرا جريا خلف امرأة أخرى غير أمي.

-        صف لي بيتك!

-        لن أصفه .. أريد أن أرى ردة فعلك عندما تدخليه للمرة الأولى!

ضحك عاليا ..

-        بيوتنا صغيرة مصنوعة من الخشب، بأبواب صغيرة خشبية نزينها بأشياء تشبهنا ..

-        بماذا تزين باب بيتك؟

-        برسم صغير من الزجاج لطائر الفلامنغو

-        فلامنغو؟

-        عندما كنت صغيرا أعيش في بيت خالتي، كان لدينا طائر فلامنغو! أنا وابنتها جودي نلعب معه وبه كل يوم! لا تسأليني من أين أتى الطائر ولماذا هو موجود في مزرعة بقر وخنازير، ولكن هذا الطائر يذكرني كثيرا بطفولتي.

لوحدها أحيانا في غرفتها تسأل نفسها إن كانت مستعدة لمواجهة هائلة من التغيير، ذلك التغيير الذي سيجتاح تفاصيل حياتها وينقلها الى عالم آخر! الى بلد بعيد جدا عن موطنها، الى جو مختلف عن الأجواء التي تنشقتها، مياه مختلفة عن المياه التي أمطرتها وسقتها فكبرت وينعت وأصبحت فتاة أحلام رجل غريب عنها! هل هي مستعدة للغربة المضاعفة؟ عندما لا تترك فقط الوطن، بل تترك أيضا فكرة العودة إليه والاستقرار فيه بصورة دائمة! هي هل مستعدة للتأقلم مع فكرة وطن جديد؟ حياة جديدة؟ بيت جديد؟ وباب جديد نحت عليه بالزجاج رسم تجريدي لطائر فلامينغو وردي؟ هل هي مستعدة للانتقال كليا الى عالم جوناثان، الى بيته الخشبي الصغير بحديقته الخضراء؟

 سألها يوما على الهاتف:

-        هل جربت يوما الجلوس شتاءا قرب مدفأة خشب؟

ضحكت ..

-        خشب؟

-        تلك التي نضع في وسطها جذوع شجرة البلوط والسنديان العتيق فتحترق معلنة عن صوت فرقعة الشرارات الصغيرة ورائحة الخشب المحروق اللذيذة؟

صمتت .. ثم أردفت ..

-        لا .. لم أجرب رائحة السنديان المعتق المحروق

-        ربما تكون تلك أجمل جلسة .. في أجمل أمسية .. في أجمل شتاء

صمتت طويلا ثم سألته ..

-        جوناثان .. هل تعتقد ان شتاؤكم سيحبني؟

ضحك ..

-        لم لا؟

-        أنا عربية جوناثان .. لا لست فقط عربية، أنا كويتية .. أنا بنت أسخن رقعة في الخليج العربي! بقعتي قاحلة حارة تتدلل بحضن الشمس .. أنا بنت الشمس جوناثان، لم يعتد جسدي على قرصة الشتاء الطويل!

صمت .. ثم أجاب:

-        سأكون هناك معك .. أعرفك على الشتاء وأعرفه عليك ولن أغادر أبدا إلا عندما تتصادقان

أقفلت السماعة ذلك اليوم بعد جملته الأخيرة، كانت تريد أن تنام على فكرة أنه لن يتركها أبدا، وهي قررت يومها قبل أن تغمض عينيها على صوته أنها أيضا لن تتركه.



***



طرقات القاضي على طاولته الموجوعة باتت أكثر غضبا، لم يكن القاضي وحده الغاضب من الجلبة التي اجتاحت المكان. كان الأخوة غاضبون من ظهور مريم فجأة وبكل جرأة ووقاحة في أول جلسة لمحاكمة حبيبها! لم يكونوا يدركوا أنها لازالت شامخة وأبية رغما عن كل المهانة التي تجرعتها تحت أقدامهم! بدت هادئة وغير خائفة، هي الآن بحماية العدالة. وعندما صرخ حميد للمرة الرابعة بكل الكلمات النابية اتجاهها تلقفته يد الحراس جرّا خارج المحكمة. أنهى القاضي طرقاته الحانقة بعد طرد حميد من القاعة وصرّح للجميع أن هذا سيكون مصير كل من يتحدث بصوت مسموع بدون إذن. جلست مريم خلف محامي المتهم بكل هدوء، ووقف الجميع عندما طلب محامي محمد استراحة نصف ساعة للتحدث لمريم ومعرفة من هي ومن أين أتت ولماذا هي هنا! سمح القاضي بالاستراحة ولم يغادر المنصة إلا عندما كفل الحماية التامة لمريم من قبل حراس المحكمة. أمر القاضي أن لا يقترب أحد من مريم إلا محامي المتهم التي صرحت مريم أنها أتت كشاهدة إثبات في قضية محمد.



أخذها المحامي الى غرفة بجانب قاعة المداولة، سألها واستدل منها على كل ما تريد ان تقوله للقاضي ووكيل النيابة والمحكمة. لم يصدق المحامي أن مريم أتت على الرغم من كل ما حصل لها لكي تنقذ الرجل الذي وصمت معه بالعار والفضيحة. وعلى الرغم من أنها لم تكذب على المحامي بشيء، إلا أنه ربت على كتفها وقال لها أنه يحترم شجاعتها وثقتها به. بعد انقضاء الوقت عادت مريم والمحامي الى القاعة من جديد، بعد ان اقترب محامي الدفاع ووكيل النيابة من المنصة ليفاجئ المحامي الجميع بأن مريم تصر على ان تصعد المنصة اليوم فقط. بجعبتها شهادة مدعمة بالأدلة العينية على براءة المتهم، هي تريد أن تقول ما لديها وتغادر المكان .. تغادر البلد.



بخطوات هادئة وصارمة تقدمت مريم من منصة الشهادة وسط ذهول الأخوة الثلاثة، رفعت يدها اليمنى ووضعتها على القرآن لتشهد أنها ستقول الحق وليس سواه. اغرورقت عيناها وهي تردد القسم، عادت الغصة الى قلبها وهي ترى عيني محمد معلقة عليها بكل حب، وعيون أخوتها تحتقرها بكل إثم. قالت لنفسها قبل أن تنبس بأي كلمة أنها هنا لوضع الحق على طاولة العدالة، وعلى الرغم من كل ما قيل وسيقال عنها إلا أن إنقاذ محمد من الظلم وحده سيبرئ جراحها الغائرة ويعوضها عن كل ما ستواجه بعد ذلك. قطع غيباها صوت المحامي سألها عن اسمها، أخذت شهيقا غائرا ملئ رئتيها بهواء كافي لدعم بقايا الشجاعة لتدفع صوتها الخافت الى الخارج:



-        اسمي مريم راشد السامي، أنا في هذي المحكمة اليوم لأبري ذمتي وأريح ضميري. أنا حضرت هذي الجلسة على الرغم من احتمالية وجود خطر كبير على حياتي، ولكن القدر ترك في ايدي إمكانية إنقاذ هذا الإنسان المظلوم من ضياع سنين طويلة من عمره بسببي. أنا السبب ورا وجود محمد سعد البرّاج في القفص. محمد ما هو مجرم ولا حيوان عشان يكون في هذا المكان الدنيء بينما المذنبين الحقيقين قاعدين في مكان الضحية. أنا ومحمد كنا الضحية ولازم المجرم يلاقي عقابه.

شجعها المحامي ..

-        كملي مريم ..كملي بنتي

شهيق آخر ..

-        أنا كنت أخت الرجال الثلاثة إللي قاعدين في الصفوف الأولى من جانب الإدعاء، حضرة القاضي أقدم لك وثيقة موثقة من الدولة وموقعة من فواز راشد السامي، جاسم راشد السامي وحميد راشد السامي بتبرؤهم مني رسميا في محكمة الأحوال الشخصية قبل أكثر من 6 شهور. هذي الوثيقة تضمن لي في وجود هيئة المحكمة او عدم وجودها الصلاحية في الكلام بحرية، والحماية التامة منهم لإن ما لهم أي سلطة علي او قرابة فيني. وأي اعتداء او تدخل منهم لازم يعاقب عليه القانون خصوصا إني الآن غير مسئولة منهم ولا يمتون لي بصلة لا من الناحية الاجتماعية او القانونية.



يقدم المحامي أوراق التبرؤ للقاضي، ويقرأها القاضي ويبقيها بجانبه .. تكمل مريم، توجه حديثها مباشرة للقاضي:

-        حضرة القاضي أنا كنت على علاقة عاطفية مع محمد، كنا نحب بعض ومتفقين على الزواج. كان عندنا شقة في منطقة بنيد القار هذا عنوانها وعقد الإيجار باسم محمد.



يسلم المحامي عقد إيجار الشقة المبين فيه العنوان والموقع ورقم العمارة والشقة وتاريخ بدأ الإيجار وإيصالات دفع الإيجار. تكمل مريم:



-        كنت اقضي في الشقة وقت متقطع بعد الجامعة والعمل، كنا آنا ومحمد نلتقي فيها تقريبا كل يوم. لمّا درى كل من فواز وجاسم وحميد بالعلاقة قرروا الهجوم على الشقة، كان الثلاثة مسلحين معاهم عصي وسكاكين، وكان مع فواز مسدس. هذي صور الثلاثة وهم يدخلون من البوابة الرئيسية للعمارة الوقت واليوم والتاريخ موجودة في زاوية الصور. دخلوا الشقة علينا، كسروا الباب وتعدوا علينا بالضرب والطعن بدون تفاهم او حوار. تلقيت ضرب مبرح من الثلاثة في ذاك اليوم وطعنة في الخاصرة. كسروا أنف محمد وفكه. نقلني البواب الى المستشفى بنفس اليوم لإني كنت على مشارف الموت، وهذي تقارير المستشفى.



يقدم المحامي تقارير المستشفى كاملة للقاضي وينشغل الأخير بالإطلاع عليها بالتفصيل. تكمل مريم:



-        اتصل حميد بأصدقائه في الداخلية، تلقون في هذه الورقة أسماؤهم الكاملة من محضر الضبط والإحضار اللي أصدروه بحق محمد. وكان متفق معاهم أنه راح يتصل فيهم لتلفيق تهمة حيازة كمية كبيرة من المخدرات بقصد الاتجار في لمحمد بعد ما يتم نقلي من المكان. تلقون أيضا صورة تتضح فيها عملية نقلي مصورة من كاميرا بوابة العمارة الرئيسية 22 دقيقة قبل حضور ضباط الداخلية.

أكملت ..



-        سيدي القاضي راح تلقون تاريخ محضر الضبطية إللي كتب فيه الضابط خالد المحمود تفاصيل مداهمة شقة محمد هو 12 نوفمبر 2002، بينما كل العملية من التهجم على الشقة والاعتداء علي وعلى محمد حسب تاريخ كاميرا العمارة هو 13 نوفمبر 2002. وهذا يدل على أن المحضر تم تحضيره وكتابته وتوثيقه قبل يوم كامل من تاريخ الضبطية المفترضة وهذا يدل على أن العملية كلها مخططة وملفقة مسبقا لمحمد انتقاما منه على علاقته فيني. كان العقاب اللي حضروه هذولي الرجال اللي كانوا سابقا إخواني لمحمد هو طعنه في سمعته وتضييع مستقبله في السجون لأنه ببساطة كان على علاقة فيني. في محضر النيابة أيضا مدون أن المتهم لم يضرب ولم يعتدى عليه في شقته، بل تم "تأديبه" في مخفر الشرطة للتحكم بسلوكه العدائي وهجومه المتكرر على المحقق أثناء تأدية عمله. أقدم لكم صورة من مدخل العمارة الخلفي التقطتها كاميرا أخرى موجهة على المدخل الخلفي، واضح فيها أن محمد مصاب بجروح غائرة وكان ينزف دم لمّا تم نقله للمخفر.



يقدم المحامي الصورة التي أشارت لها مريم للقاضي، ينظر له الأخير بصمت بينما القاعة صامتة لا يسمع فيها إلا أصوات الدهشة وبكاء أخت محمد التي كانت تجلس في كرسي بعيد.



ينظر القاضي الى مريم ويسألها:

-        في شي بتضيفينه يا بنتي؟

-        شيئين حضرة القاضي .. الأول أن في محضر القضية تم تدوين أنهم وجدوا كميات كبيرة من الكوكايين في أكياس بلاستيكية مخبئة في حقيبة جلدية سوداء كبيرة من ماركة سامسونايت، تم العثور عليها في شقة محمد! صور الكاميرا اللي راح يسلمك إياها المحامي الآن تبين لك أن ضابط الشرطة نفسه اللي اتصل عليه فواز وفقا لقائمة اتصالات هاتف فواز إللي ايضا راح يسلمك إياها المحامي الآن حضر للعمارة من بابها الخلفي معاه الشنطة الجلدية المذكورة في الساعة 7:46 مساءا متجه حسب كاميرات المصعد الإلكتروني الى الطابق الثالت مكان الشقة، ثم نزل ومعاه الضبطية المفترضة "الشنطة ذاتها" مع المتهم الجريح بأيده الكلبشات الساعة 8:44 دقيقة. الشنط ملفقة حضرة القاضي والضابط هو يابها معاه واكتبوها على محمد في التقرير على أنها ملكه.



بنظرة ثاقبة وابتسامة متوارية تقابلها عين المحامي، تتفحصها عين القاضي وكان لابد من السؤال، بادرها القاضي:

-        من اين لك كل هذه الدلائل والصور يا مريم؟

قفز المحامي ..

-        اعترض سيدي القاضي، حق حماية المصادر ..

نظرت اليه مريم .. ثم الى القاضي وقالت:

-        من إيد الحق حضرة القاضي، أنا سعيت وراء هدف واحد وهو رفع الظلم عن المظلوم فلقيت كل الأيادي تمتد لي وتساعدني بدون مقابل. البواب لمّا شاف الاعتداء شال كل أشرطة الكاميرات وخبئها، قطع الإرسال وقال للمحققين وحميد لمّا اسأله عن الكاميرات أنهم بعد ما تم تركيبهم لإن العمارة جديدة. إللي في ايدك سيدي القاضي كلها صور مطبوعة من أشرطة فيديو كاملة بالصوت والصورة والوقت والدقيقة والثانية. تقدر تتطلع عليها كلها عند محامي محمد. ايضا حصلت على مجموعة كبيرة من المعلومات من العريف ماجد الماجدي الجديد إللي كتب اسمه محامي محمد كواحد من الشهود القادمين في القضية. الكل ساعدني لإن مثل ما فيه ناس دنيئين مجرمين مثل الأخوان الثلاثة إللي حاضرين أول ناس يتأكدون أن جريمتهم تاخذ مجراها، في ناس كلهم خير قدموا كل إللي يقدرون عليه لإنقاذ رجل صالح كل جريمته إن حب أختهم.

عمّ القاعة صمت ثقيل، كانت المحكمة تسبح في هدوء الذهول، هناك شيء مختلف في مريم، كانت هادئة وقوية لم يكن يهمها إلا أن تلقي كلمتها، تتحدث بما بها وتغادر. لم يكن هدفها الانتقام من إخوتها، لم يكن هدفها تلطيخ سمعة العائلة أكثر، لم يكن هدفها الحصول على تعاطف الناس الذين عرفوا بفضيحتها وعزروها بالقطيعة الاجتماعية وكلمات التقليل من الشأن والصَغار. هي ملّت الناس والمجتمع الذي يتغذى ويكبر ويتسلى بهواية علك قصص الآخرين. تعترف أنها كانت منهم، ولكنها لن تكون بعد اليوم. هي هنا لكي تضع عذابات ضميرها على طاولة القضاء المرتفعة، تحت تمثال العدالة الذي فرضا لا يرى الفروقات بين الناس، يحكم بالقسطاس المستقيم، فينصف المظلوم ويعاقب الظالم والآثم والمعتدي.



قطع القاضي صمت القاعة:

-        في شيئ أخير تبين تضيفينه؟

نظرت الى الثلاثة القابعين في كراسيهم البعيدة .. حشرت عينيها بأعينهم وقالت دون ان تبعد نظراتها الصارمة عنهم:

-        حضرة القاضي، بعد سماعك لقصتي بتفاصيلها الدقيقة، وبعد إللي سووه فيني الثلاثة إللي هناك .. أنا أحتاج تعهد رسمي منهم إنهم ما يقربون منّي. أحتاج تعهد رسمي أنهم راح يعاقبون أشد أنواع العقاب إن حاولوا مجرد المحاولة إيذائي بأي طريقة. الثلاثة إللي هناك ما لهم علاقة فيني لا من قريب ولا من بعيد، بعد تبرؤهم مني آنا بعد أتبرأ منهم. أنا جريمتي كانت الحب والخطيئة بإسم الحب، ولكن جريمتهم هي الإعتداء، الشروع بالقتل، الضرب المبرح والتآمر بالزور ضد إنسان مسالم.



لم تنتظر مريم رد على طلبها، لم تكن تريد أن تسمع تعليق القاضي او ردود أفعال أخوتها. بعد كلمتها الأخيرة قامت من على منصة الشهود، بخطوات واثقة وثابتة مشت بين الكراسي المواجهة للقاضي. كانت تتمنى لو ألقت نظرة أخيرة بإتجاه محمد، تعلم انه كان يبكي! لهذا وهي تعطي الجميع ظهرها وتخطو خطواتها الأخيرة خارج القاعة بإتجاه الردهات الطويلة .. كانت هي الأخرى .. تبكي.


يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 20

$
0
0


انينبض القلب فجأة! أن يمتلئ الصدر بفراشات شقيات يدرن بلا هوادة في فلك النبض! أن نحلم في أطراف الليل وآناء النهار بجدول رقراق وشلال بارد! أن نتفاوض مع الأمل كل يوم، أن نؤمن بمعجزة ما، أن نتنهد ابتسامة ونتجرع كل يوم دمعة عشوائية مبهمة لم ينزلها من عيوننا لا حزن ولا فرحة! أن تتحول الوجوه كلها الى سحابة ملامحه، أن يتغير وقع الكلمات التي قالها يوما بلا مبالاة لتصبح أقوال مأثورة نتذكرها ونعيدها كل يوم، تؤثر فينا تماما كقصص الأطفال التي قرأتها لنا أمهاتنا ولازلنا نتذكرها الى اليوم...

 كل هذه مؤشرات تدل على ان طبلا سكن الخافق، وأن الخفقات تحولت الى احتفالية آنية لقبيلة افريقية تعرف تماما كيف تصدر أصوات عالية تخاطب فيها الفرح! كل هذه المؤشرات تدل على أننا غارقون في دوامة الحب تدور فينا وندور فيها غير مبالين بما يحدث حولنا ..

هي وهو .. لازالوا هناك، في تلك الدوامة النابضة بالدفء، السابحة بالموسيقى الروحية الذائبة بأحلام مستقبلية مغموسة بلذة المعية. أصبحت كلمة "معا" او "Us" لسلمانة أهم بكثير من تلك الـ "أنا " التي كانت تحترفها وتحبها، هي وهو .. هناك لوحدهم بالحلم الذي جمع اثنين من عالمين بعيدين، تفاهما بلغة ثالثة لا لغتها ولا لغته .. أسموها فيما بينهم بلغة النبض. لم تكن سلمانة تعرف أنها لم تحب من قبل .. كانت تعتقد أن كل تلك الخفقات السريعة التي أحستها يوما لرجال رسموا داخلها فكرة مبدئية لعلاقة تبدأ بالتفاهم وتنتهي بالزواج .. كانت حب! لجوناثان نظرة استثنائية للمستقبل الذي يريد أن يعيشه معها، قال لها يوما أنه رجل يعيش على مبدأ البساطة وينفي مجمل التعقيد من أدق تفاصيل حياته:

-        لا شيء أروع من الحياة البسيطة .

نظرت في عينيه وسألت:

-        ماذا تقصد؟

-        اعرف الكثير من الناس الذين يحترفون أخذ قرارات تجعل حياتهم أصعب وأكثر تعقيدا!

-        هل تقصدنا؟

-        نعم .. العرب منهم! هل ستجادلينني؟!

-        لا .. في الحقيقة أنا أوافقك الرأي

يبتسم ويصفق ..

-        يا الله هذه المرة الأولى التي لا تجادلينني في موضوع يخص دائرة الاختلاف فيما بيننا !

-        جونوثان حبيبي .. أنا لا أجادلك لأني فقط أريد أن أجادلك! أحيانا أجادل لكي أعرفك أكثر

-        وبعد كل الجدال والحوارات التي دارت بيننا .. ما حكمك؟

صمتت .. نظرت عميقا في عينية ..

قالت له يومها .. أنها قررت أن تتزوجه الى الأبد ! ضحك كثيرا وقتها وسألها إن كان مفهوم الزواج لديها يستحمل ان تتزوج شخصا لمدة معينة، هل هناك احتمالية ان تتزوج شخص ليس للأبد؟ ضحكت، ضربته ضربة صغيرة على رأسه وقالت له ان لا أحد يعلم إن كان سيبقى زوج أحد الى الأبد! ما عنته، أنها اتخذت قرار سيبقى معها الى الأبد، أنها تريده صديقا رفيقا وزوجا لها.



في غرفة والدتها، سلمانة تجلس على طرف سرير والدتها بينما الأخيرة تشاهد برنامج ما في التلفاز، من يراهن من بعيد يعلم أن في صدر سلمانة حمامة ترفرف رغبة حاسمة بالخروج من القفص. تنظر باتجاه التلفاز ولكنها لا ترى منه سوى أشكال رئيسية، التلفاز مستطيل وتخرج منه أضواء وأصوات .. كل التفاصيل الأخرى كانت غائبة. في رأسها تحاول ان تجد المدخل الصحيح للقضية، ودّت لو كانت محامية، خطيبة، أديبة .. متحدثة .. تمنت لو أنها يوما درست علم النفس لكي تعرف مداخل البشر، ما يؤثر بهم وما لا يدخلهم في نوبة غضب او صدمة. انتهى برنامج أمها، سحبت نجلة الريموت كنترول بتكاسل من جانبها وأخذت تدور على المحطات، كان الملل باد على ملامحها. أخذت سلمانة الريموت كنترول من أمها .. ضغطت زر الإقفال، نظرت تجلة باتجاه سلمانة .. ترددت الأخيرة .. ثم فتحت فمها لتقول لوالدتها أنها ستتزوج اجنبيا!

***

منذ غادرت مريم الكويت وقد انقطعت أخبارها عن الفتيات كليا، لم تتصل بهم إلا مرّة واحدة بعد ما حصل في المحكمة لتقول لسلمانة أنها ستختفي من الكويت .. ستغادر المكان والحدث لكي تنسى الحاضر وتبدأ مستقبل جديد في مكان جديد. أعطت سلمانة عنوان لبريد الكتروني جديد وتمنت من سلمانة أن تخبرها عن تطورات القضية:

-        راسليني اليوم إللي يطلع فيه محمد من السجن ..

 خطر على حياتها أن تبقى بعد أن فضحت إخوتها ومرغت أسم العائلة بالتراب.



اليوم التي قررت فيه سلمانة أنها تحب جوناثان .. كان قد مرّ على حادثة مريم وسفرها أكثر من 7 سنوات، منذ تلك الفترة الاستثنائية من حياة سلمانة وقصة صديقتها التي علكتها الكويت لأكثر من سنتين وهي تشعر بذلك الدفق اللامسبوق من قوة وإصرار. لازالت تتذكر مريم، وجهها، دموعها وآثار الجروح الغائرة في روحها. صوتها الذي بالكاد يسمع وأملها المخنوق تحت أكوام ملبدة من قماش أسود ثقيل. تتذكرها كل يوم، تسأل نفسها عن مصيرها، تزورها مريم أحيانا في الحلم، تبتسم تارة وتبكي تارة أخرى. قصّت سلمانة على جوناثان نصيبا شيقا من حكاية مريم! فتح عينيه وفغر فاه واندهش! تلبدت غيوم سودا فوق سماء المحادثة، خاف جونوثان في البداية من مصيره معها، من نظرة الرجال المحليين للأنثى! من ملكيتهم الصامتة لها ولجسدها، من مسؤوليتهم الغير مبررة لتصرفاتها! من خوفهم اللامسبوق على اسمها، من اقتران كيانها بوجودهم، من ارتباط رغباتها بشرفهم. خاف من فكرة أن المرأة لا تملك قراراتها في كثير من الأحيان في هذه البقعة الصحراوية من الأرض! خاف من فكرة أن يكون مستقبل سلمانة وقرار زواجها ليس بيدها .. سألها ليعرفها:

-        ما رأيك أنت؟ هل ترين مريم مخطئة أنها أحبت محمد؟

زفرت وأجابته:

-        الحب لم يكن يوما خطيئة بالنسبة لي! الحب فكرة جميلة كبداية لعلاقة اثنين، ولكنها لا يجب أبدا أن تكون مبررا للقفز فوق خطوط الدين الحمراء!

-        وهل دينكم يسوّغ للحب؟

-        طبعا .. طالما أنه سينتهي بصورة شرعية لا تغضب الله ولا تنافي العادات والتقاليد!

-        وماذا عن منتصف العلاقة؟!

-        ماذا تقصد؟

-        في مفهومكم .. إن أحب رجل امرأة او العكس فإنهما يجب ان يتزوجا !!

-        نعم!

-        وماذا عن كل ما يدور في الفترة الزمنية والروحية والعاطفية ما بين الحب والزواج؟ هل من المفروض أن يحب رجل امرأة بصمت دون أن يعرفها او يحادثها او يلمسها الى ان يتزوجا؟

-        من منطلق رأيي الشخصي أن المعرفة بينهم يجب ان لا تتعدى الصحبة والحب الأفلاطوني الى أن يتم الزواج فتتطور العلاقة الى الجسد .. الجسد لم يكن يوما لسان الحب او العضو الذي يعرف الشخص من خلاله أنه يحب شخص ما. القلب والروح والوجدان جديرة بالحديث والتواصل بلغة الحب بين الحبيبين.

-        إذن المشكلة هي في الجسد؟ في الجنس؟

-        تقريبا! كان المجتمع الكويتي في الماضي لا يعرف للحب طريق غير نبض القلب والتقاء العيون الصامتة من وراء الأبواب الخشبية والجدران الطينية. جداتنا تزوجن غالبا من رجال لم يسبق لهن رؤيتهم، ولكنهم عمّروا في زواجاتهم أكثر بكثير من بنات اليوم. منهم من أحبت كيان رجل كانت تعرف اسمه وشكله ولا شيء بينهما. في الزمانات الجميلة كانت الفتاة تحب سمعة رجل وصيته، شهامته وقوته ونجاحاته لأنها لم تجد اختيار آخر يمكنها من حبه لشخصيته وطريقة تعامله معها.

-        وهل انت من مؤيدين هذا النوع من الحب والزواج؟

-        أنا؟ لا !

يبتسم .. وهي تكمل:

-        الزمن غير الزمن جوناثان .. الرجال غيرالرجال .. والنساء غير النساء ومفهوم الحب المجرد وفلسفته اختلفت ايضا. مع تعدد خيارات المرأة الحياتية اليوم وامتلاكها لنصيب جيد من قراراتها في الحياة، أصبحت تمتلك نصيب جيد من الكيفية التي ستتزوج بها. لازالت تتدرج هذه الخيارات ما بين "لا معرفة مسبقة على الإطلاق"، الى " جلسة واحدة في بيت العائلة حتى بدون مكالمات هاتفية بعد القبول" الى علاقة عاطفية كاملة وتجربة حياتية شاملة يقرر بعدها الطرفان إن كانا يودان الاستمرار مع بعضهم بعقد زواج او لا.

-        سألها بشغف : وانتِ؟

-        أجابت بشغف اكبر: أنا بين البينين .. تماما في الوسط، في تلك البقعة التي اعتقد انها ترضي الله وترضيني. أريد أن اعرف الشخص الذي سأتزوجه قبل الاقتران، أريد الفرصة في أن أراه من بعيد، خصوصا في تلك اللحظات التي لا يعلم بها أنني اراقبه، وأريد الفرصة أيضا أن أواجهه بكل ما رأيت منه حين كنت أراقب دون علمه. أريد ان أحاوره وأخاطبه وأتشاجر معه، أريد ان أصالحه، أريد ان اعرف كيف سيكون شعوري عندما يعتذر مني، عندما بالصدفة يقترب مني أكثر قليل من المعتاد، عندما يحاول ان يمسك يدي، عندما يفكر في تقبيلي وعندما أفكر أنا في تقبيله. لكي أكون صادقة معك، أريد ان اعرفه لدرجة أن أعرف تماما ما هو شعوري عندما أتخيله لي وحدي، أنا وهو في بيت واحد وأيام واحدة وعمر واحد. ولكني في نفس الوقت لا اريد ان تتخطى رغبتي أكثر من مجرد مبادئ المشاعر في المعرفة .. في القرب وفي الوصال!



عادة ما يحاول جونوثان أن يفهم المجتمع العربي كما هو، يعلم أنه عندما أحب سلمانة العربية انه يجب أن لا يحاول تغيير تلك الأفكار التي كبرت وتعلمت ونشأت عليها، وإن حصل ارتباط رسمي بينهما فعليهما لكي تنجح علاقتها أن يصلا الى نقطة تواصل يلتقيا في مكان مريح لكليهما في الوسط. أحيانا تعجز خلفية جوناثان المتحررة استيعاب منظومة العادات والتقاليد الصارمة التي تعيش تحت سقفها سلمانة. وعلى الرغم من أنها تبدو متفتحة جدا ومثقفة الى أبعد الحدود إلا أنها لازالت تلتزم بتلك الضغوطات اللامنطقية من وجهة نظره. أحيانا يراها جوناثان كفراشة بجناحين جميلين ملونين رائعين قادرين على الرفرفة والطيران، ولكن مجتمعها لا ينفك من وضعها في جرة زجاجية شفافة ترفرف فيها بجناحيها الى أن تتعب، فلا هي ترتفع ولا الجناحين يكبران.

ببساطة .. كان هو .. وهي .. وعلى الرغم من كل الفضاء بينهما .. كان الحلم ثالثهما!


يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) الأخيرة

$
0
0



هناكفرق شاسع بين الحشرجة والاختناق! لكن سلمانة في تلك اللحظة التي شخصت فيها عينا والدتها وظهرت في رقبتها عروق الغضب أحسّت أن صوتها يتحشرج اختناقا فاضحا بجزعها! طالما تخيلت لحظة الاعتراف الكبير، لا يعترف الناس إلا بذنوبهم قال لها جوناثان يوما .. أضاف: أنا لست ذنبا!

لم تجبه في تلك اللحظة الممسدة بالصمت، حجب ظلام ما، تلك المسافة القصيرة الفاصلة بينهما، رأت خلال العتمة مصيرها او ربما .. مصير اعترافها.

نجلة استغرقت وقت أطول مما تصورته سلمانة لتبدأ ..

-        انتِ من صجج وإلا تتغشمرين ؟؟

سؤال لم يتبعه برهة صمت طمعا بإجابة! صفعة دوّت على وجه البنت التي جاءت لأمها تبوح حبها للغريب. لا تعرف لمَ ولكنها في تلك اللحظة الحاسمة تذكرت وجه شادية عندما كانت "فؤادة"!

وتطايرت الأفكار كالصحف الممدودة بوجه الريح ..

توافد الرجال على رائحة الصراخ التي شلّت أركان المنزل، لم تعلم سلمانة متى سقطت على الأرض، ومتى بدأت ركلة والدها الأولى، ومتى انتهت لكمة أخيها الأخيرة؟ كلها تهدرجت مع سيمفونية سقيمة على أنغام صراخ نجلة التي وفي خضم الهلع صرّحت بأمور لم تكن صادقة ولا مباحة! سمعت سلمانة في دورة الأرض الكاملة التي شهدتها بلحظات أنها تصاحب الأجانب الكفار! أنها تؤنس غرتبهم! أنها تزورهم في منازلهم ..

-        وأنا أقول بنتي شفيها ما ياها النصيب! أثراج مسودة سمعتج يا بنت ابليس .. وأنا أقول شفيهم البنات كلهم تزوجوا وانا بنتي ما تحركت من مكانها، أثراج فاضحة عمرج وحاطة اسم ابوج بالتراب .. وأنا أقول ..

لم تعد سلمانة تسمع، ربما جاءت صفعة والدها الأخيرة على أذنها اليسرى هدية .. رحمة من الله لكي تفقد بعدها كل إحساس باليوم وما بعده ..

أخذ مبارك والد سلمانة هاتفها النقال ومفتاح سيارتها، بعدما دفعها كما تدفع المنحلات الى زنازينهم الصغيرة. غرفتها البنفسجية دكنت، أصبحت تلوح بالغربة ..
لم تبك وقتها، بخطوات بطيئة جدا نزحت الى فراشها ونامت عليه، تدثرت بآثار دموعها الدفيئة وغفت على آلام جسدها التي تناثرت عليه كدمات طازجة ..

في منتصف الليل أفاقت، هكذا بلا مقدمات ..
أدارت عينيها في غرفتها وأرادت من كل قلبها أن تتنفس بهدوء شهيقا مطمئنا في تلك اللحظة الصغيرة جدا التي يستوعب فيها العقل أنه كان يحلم! لم يكن لها ذلك ..
آثار الدموع الجافة، قطرات الدماء اليابسة وندح الكدمات النائمة بعنجهية غريبة على جسدها! تناكفها كدماتها، كانت عندما استقرت على جلدها شفافة ومتوارية .. والآن بدأت تظهر عليها آثار الغرور، تذكرها ألوانها بفواكة استوائية نضجت أكثر من اللزوم.

نهضت من فراشها، داست على الأرض .. خطوة ونصف لتظهر ملامحها على المرآة المعلقة بالجانب الآخر من غرفتها، لمحت وجهها المتورم، شعرها المنكوش وعينها الغائرة. آثار الدماء وآثار الكبرياء الذي داسته مفاهيم واهية في مجتمع أهوج .. فاجأت نفسها وضحكت .. قهقهت طويلا على شكل وجهها .. وفي وسط نوبة الضحك سألت نفسها إن كانت جُنت .. ولم يأتها الجواب!

احتاطت سلمانة .. كانت تعلم ما سيحدث، او ربما فكرت في أسوء الاحتمالات محاطة بأماني الخيبة، تلك التي تأتي بالنفي المحمل بكل رايات الغبطة .. عندما نحمد الله أنه خيب توقاعتنا ..
 في خزانة ملابسها الداخلية هاتف نقال رخيص، في رأسها الجريح رقم هاتف واحد، أصابع مهزوزة ولكنها سعيدة تنقر على الأرقام المضيئة .. رنتان .. ثلاثة .. وصوت واحد تعرفه جيدا وتحبه كثيرا، ناعس وهادئ ..

-        هالو ..

-        Jonathan .. Its me .. Come and take me !



****



عند بواية المطار.. عند الباب الذي يفتح نفسه بنفسه وقفت للمرة الأخيرة تتفاوض مع الشجاعة: خطوة واحدة وأكون في حضن الكويت! مازال اسم الأرض يؤلمها ولكنها تشعر أنها شاخت على الألم، احترفته .. بل أدمنه الى أصبح جزء منها، لا تحبه ولكنها تألفه. الشارع الفاصل بين أرض مبنى المطار والمواقف المقابلة لازال مثلما كان عندما غادرت بحجاب ملون على الرأس وثياب رثة وروح نازفة. عندما غادرت كانت خائفة من الناس الذين لا تعرفهم ولا يعرفونها ...
واليوم .. خافت من المتربصين! هؤلاء الذين تعرفهم ويعرفونها جيدا!  ابتسمت، قالت لنفسها أنهم لن يكونوا بهذا الحب لكي يستقبلوها حتى لو برصاصة بعد كل تلك السنين التي غابتها عن رؤوسهم، كل السنين التي لم ينطقوا فيها اسمها، كل السنين التي لم يسألوا فيها عن أرضها، مستقبلها ومصيرها. سمعت منذ زمن مقتطفات أخبار ..  ( قالوا للسائلين أنها ماتت! ) وأغمضوا العيون المتربصة بالشمع الأحمر .. وسمعت ايضا أن أمها استقبلت فيها العزاء يوم واحد بدلا من ثلاثة.



****

أخذها جوناثان ..
قفزت سمانة من نافذة غرفتها الى سطح ملحق بيت الجيران الذي طالما استغربت قربه من نافذتها، وكأنه وضع بإحكام ليلعب دورا هاما في فصل استثنائي من قصتها. ومن الملحق قفزت الى سطح غرفة سائقهم الذي تدلى منه سلم صديق .. اعتبرته دوما سلمانة ملاذها إن يوما حصل وشب حريق! لم تكن يوما أن حريقها سيشب ويحرق أشلائها بلا حتى شرارة واحدة.

كانت الليلة مقمرة وهادئة الى ابعد الحدود. امسكت حقيبة يدها جيدا وقفزت الى الأرض بعد السلمة الأخيرة، عندما كانت تمشي برفق الى بابا منزل الجيران الأمامي، كانت بلا شعور تمسح بأصابعها الخائفة على ما تبقى لها من جدران بيتها .. تلك اللصيقة ببيت الجيران .. القريبة جدا من روحها!

جوناثان بسيارته كان بالانتظار، في جيبه جواز سفره وبطاقاته الائتمانية وفي قلبه خفقة فرح لأنه وعد وصدق. في حقيبة يدها جواز سفرها التي دبغت عليه قبل شهر تأشيرة دخولها لتلك الأرض البعيدة، في صندوق السيارة حقيبة واحدة كبيرة شاركته سلمانة بها، وضع هو متاعه الذي سيعود به للوطن، ووضعت فيها ثيابها التي ستغادر بها الوطن.
ضدّان متناقضان كانا سلمانة وجوناثان، هو يعرف معنى الحرية وهي ستعرفها قريبا جدا! هو يعود وهي تغادر، هو سيلتقي بأهله تحت ضوء الشمس، وهي تتركهم ورائها خفاء في حلكة الليل، هو يحبها ويريدها وهي تحبه وتخافهم! ولكن على الرغم من كل هذا التضاد .. كانا رجل وامرأة تلعب في رأسيهما أغنية ملبدة بحكايا الشمس.

في مواقف المطار يوقف سيارته التي أوصى صديقة بها، يأخذ الحقيبة من الصندوق، يفتح بابها ويحدق برهة في وجهها، يسحب يدها، يصد عنها ويكتم دمعة مخضبة بقهر الرجل الذي لم يكن هناك ليصد الشر عن امرأته. تذكر انها قالت له، هيئته لكل ما سيحدث، ووضعت في صدره احتمالية راسخة لكل ما سيكون عليه المصير .. وهو وافق ورضي. وهو يمسكها بيد ويسحب حقيبة الرحيل .. رفع يدها وقبلها.

رأت بوابة الدخول فوقفت .. كانت رجليها أشبه بخشبتين محروقتين، تتناثر شظاياها بكل مكان، ترتجف هون الضعف وانهيار القوى. توقفت عند بضع خطوات من الدخول خارت قواها ودخلت في رأسها مئة فكرة .. انفعلت الأفكار كلها انهمارا أشبه بالشلال، كانت من ضمن تلك الأفكار بركان خوف. وقف جوناثان تماما أمامها، نظر بعينها ومسح دموعها، لم ينبس بكلمة ولكنه مد يده الى حقيبة صغيرة جلدية كان يضع داخلها أوراقه المهمة .. سحب ورقة بيضاء .. قدمها لها وفتحتها ..

قرأت رأس الورقة: ( وثيقة دخول بالدين الإسلامي ) لم تكمل القراءة .. مشت خطوتين ورفعت يده وقبلتها لإنه أطلق فراشة بصدرها .. تقبل قلبها من الداخل.

فتح الباب الذي يفتح نفسه، دخلت سلمانة صدر المطار بيدها رَجُلها وجواز سفر وتذكرة حياة ..

في نفس اللحظة التي خرجت فيها مريم من الباب الذي يفتح نفسه بيدها روحها

.. وقصاصة صغيرة فيها رقم قبر والدتها..


*** انتهت ***

" غدّونة" تذهب للمدرسة !

$
0
0





- راح تبجين .. وبييب كاميرتي وأصورك واضحك عليك!



اضحك عاليا على وأنا أتمدد في الضفة الأخرى من الهاتف، صديقتي تناكفني لإنها سبقتني في مضمار الأمومة بأشواط، اختبرت مشاعر العناد والفقد والفراق حتى وإن كانت واحدة من تلك الفراقات السعيدة، عندما تتباعد اليدين "الصغيرة" و"الكبيرة" اللاتي ظلتا متماسكتين منذ النظرة الأولى .. المسكة الأولى!



"غدونة" مختلفة ضمن بعد رابع لا أعرف تفاصيله ولا قياساته المجهرية! "غدونة" ليست طفلة أنجلبتها وأحببتها لإنها ابنتي فقط، بل لإنها معلمتي التي أدخلتني ما إن تواجدت في الحياة الى حيّز لم أقربه من قبل. "غدونة" لوحدها، وفي لحظة واحدة من وجود علمتني أن حياتي لم تعد حياتي! أصبحت ما إن وطأت قدميها الصغيرتين خارج النفق الدافئ مُلكا لا لشخص، بل لحالــة! أعود إليها أحيانا وأسميها حالة اللاأنا!



عندما اقترب موعد التحاق ابنتي/ معلمتي في المدرسة جلست مع نفسي وأصدرت مراسيم ذاتية تتمحور حول أين نوع من امهات طلبة المدارس سأكون! هل من هؤلاء الأمهات اللاتي يتدخلن في تفاصيل يوم صغارهم الدراسية! هل سأكون أم "بودي غارد" أشمر عن ذراعي وأسابق الزمن للتلطيش بطفل دفع ابنتي في ساحة اللعب؟ هل سأكون أم شاكية أقف الأولى عند باب المدرسة لأقدم شكوى على معلمة أساءت معاملة ابنتي طبعا ضمن نطاقات الحوار الذي يدور بيني وبينها، هي بنية البوح وأنا بنية التصيّد والكيدية! أم سأكون من هؤلاء الأمهات اللاتي تلوح على رؤوسهم لا مبالاة باهتة، تلك التي تقرر أن تحضر صغارها للمدرسة نصف نائمة، تغطي عينيها نظارة شمسية لا تخلعها حتى عندنا تدخل للمبنى!



جلست مع "غدونة" وأخبرتها أن المدرسة عالم جديد وجميل، ولأنني اعرف مدى شغف طفلتي بالتواصل مع الأطفال، حبها لمفهوم الصداقة المجرد برأسها من كل مصالح، مسارعتها لمشاركة الصغار الغرباء بحكاية، نكتة او لعبة عرفت بفطرتي ومعرفتي بإبنتي أن في اليوم الأول لن تكون عندنا مشكلة الصراع الأزلي بين الطفل ومن ربّاه وأحبه واحتواه عندما تتباعد الأيادي المتشابكة لكي يقضي الطفل سويعات من يومه بعيدا عن منطقة الألفة.



عندما أخبرت صديقتي أن "غدونة" لن تبكِ .. لهذا لا اعتقد أنني سأبكي .. قالت لي الجملة التي سطرتها بأول التدوينة وضحكت من كل قلبي بمحاولة يائسة لكنس قطع الشغاف المترددة داخلي تحت البساط .. فلا أحد يرى كم أنا خائفة من اللحظة التي أترك فيها "غدونة" داخل فصلها وأبتعد! هل ستبكي؟ وإن بكت هل سأبكي؟ إن لم تبكي هل سأبكي؟ او أنني لن ابكي؟



في اليوم الموعود استيقظ قبل الجميع، أتسحب بغرفتها، ألقي نظرة على مريولها، أصنع بيدي سندويشتها، أنتقي نكهة عصيرها، أقف عند رأسها وأحدق في "غدونتي" نائمة متجلية طفلة تبدأ اليوم أول مشوار حقيقي في رحلة انهمار حياتها. اليوم .. ستغدو ابنتي طفلة مدرسة .. روضة ..KG1 .. لا طفلة بيت وأم وأب وناني ..



تستيقظ "غدونة" تفرك عينها، مزاج معتدل وعينين لامعتين .. شعر مسترسل يفوح برائحة الجونسون آند جونسون. تأكل فطورها، ترتدي مريولها ونغادر أنا وهي للمرة الأولى عتبة الباب صباحا باكرا جدا، تتوجه هي لسعيها الإنساني الأول، وأتوجه أنا لسعيي الإنساني ايضا.



في السيارة اقفل هاتفي، أقفل موسيقاي وأحادثها ..



لأول مرّة نتحدث أنا وهي بهذا الروقان .. لا أحد يقاطعنا ولا يخالطنا .. لا أحد يدلي بدلوه في بئرنا ولا أحد يشد انتباهي بعيدا عنها، ولا يقتنص انتباهها بعيدا عنّي .. ! كنا فتاتين متحابتين متلهفتين للأتي ولدينا الكثير لنقول عنه. في ذلك اليوم كتبت هذه التغريدة في توتير ( ممتنة للفترة الرائقة في الصباح الباكر عندما أجلس بدفء ابنتي نتسامر بألق ونحن في الطريق الى المدرسة).



عند بوابة المدرسة تمسك يدي .. وددت للحظة أن لا تمسك يدي لكي لا أشعر ببرد ابتعادها عندما أتركها وأغادر وحيدة بلا سمير في سيارتي الخاوية. تبدوا "غدونة" متفتحة ومزهرة، خديها متوردين وشغافها واسع متألق، تلتهم عينيها اللامعتين كل ما يدور حولها! الفصل ذو الباب الأصفر، الأطفال وهو للمرة الأولى يرون بعضهم. "ميس وندي" ذات الصوت الرخيم، الخزائن الصغيرة تحمل أسماءهم، كراسيهم، سجادتهم التي يجلسون عليها يستمعون لقصة، ألوانهم، كراريسهم! وركن الألعاب والدمى الذي اتخذ صدر زاوية تحلقوا حولها البنات في لحظة انقلبن أمهات يحملن دماهن الصغيرة وأوانيهم البلاستيكية.



"غدونة" لم تبك في ذلك اليوم .. لوحت لي وداعا هادئا مطمئنا، طوقتني بضمة ود وأرسلت لي عبر الهواء قبلة رضا ..



وعلى الرغم من أنني الآن ابكي وأنا أكتب هذه التدوينة .. إلا أنني لم ابكِ وقتها لأنني لم أجد سببا يدغدغ حزني بعد ضمة وابتسامة وقبلة طائرة من شفتيها المزمومتين عبر الغيوم الى خدّي.




نوستالجيا ..

$
0
0



 


أكوّم الوسادة الصغيرة التي تعطيني المضيفة، بغضب او ألم لا اعلم، ولكنني أنجح في تقليص حجمهما الى النصف، أحشرها بين رأسّي ويدي، أغمض عيني وأحاول أن انام! لا أعلم لماذا لا يطاوعني النوم وأنا بين جناحي طائرة، نادرا ما يعطيني النعاس مجالا لأنسى مرارة الطيران، طول الرحلة وفجيعة فكرة أنني معلقة بين السماء والأرض، محجوزة في مقصورة ما مع أناس لا اعرفهم ولا أحبهم! حتى رغبتي في الترجل، في الرحيل ليست من ضمن قائمة الرغبات المحققة!




أضغط على الزر الذي يناكفني منذ أول لحظة جلست فيها على الكرسي الوثير في درجة رجال الأعمال! يزيد حنقي تلقائيا من كل مسمّى لا يترك للمرأة مجالا للوجود! ماذا إن كنت سيدة أعمال مثلا .. أين هي درجتي؟ يذوب الكرسي بحرفية تامة، يستريح، ينخفض الى الأسفل وأذوب معه. أقفل شاشة التلفزيون التي أمامي، انزع السمّاعة من على أذني وأغمض عيني. اصلّي صلاة صغيرة أسأل الله ان يريح جفني اختصارا للمسافة الطويلة .. وأسأله ايضا أن لا أراها!






- سيدتي .. هل ترغبين أن أصحيك لفترة الغداء؟




ازيح اللحاف عن رأسي، افتح عيني وأجد المضيفة إياها التي اعطتني وسادة اضافية عندما طلبتها، افتح عيني أكثر، كانت المضيفة تحمل في يدها اليمنى شيئا، الشيء له رأس! لازال النعاس الذي دعوته ورجوته يرسم حلقات ضوء داخل عيني، افتح عيني باتساع، أنظر لما تحمله المضيفة، كانت هي .. الطفلة النصف صلعاء، المضرجة بجروح بنية منثورة على وجهها، ذاتها الطفلة التي تطاردني في كل حلم، تلك المنقوعة بدم جاف كان يوما يسيل على وجهها ..




أشهق واستفيق ..




أقفز من على كرسي الطائرة الوثير، أصرخ صرخة مكتومة أوقفتها حقيقة أنني كنت احلم، لازلت في مقعدي المائل في الطائرة المتجهة الى أستراليا لحضور مؤتمر! المضيفة لم توقظني من النوم! ولم تسألني إن كنت أريدها ان تصحيني في فترة الغداء. أنا هنا، آلاف الأميال فوق مستوى الأرض، معلقة في إحداثيات ما، في سماء ما، فوق شيء ما. وتلك الطفلة القبيحة لازالت هنا، تبعتني حتى الى هنا .. الى لا مكان .. لا موقع.




منذ المرحلة المتوسطة وأنا وتلك الطفلة المشوهة في عراك مستميت على الوجود! أتذكر أنها ظهرت أول مرّة في رأسي عندما كنت أحاول أن أهزم ليلة مؤرقة، أتقلب بفراشي البنفسجي، اقرأ قصة تركتها لي أمي على طاولة السرير، أقفل القصة وأغمض عيني. حسبت وقتها أنني نائمة، ولكن ما إن ظهر وجهها فجأة في رأسي، فتحت عيني وصرخت! تلك الطفلة المخيفة لا تتعدى السنة والنصف، بشرتها بيضاء سُحب منها الدم فأضحت أشبه بشبح مسكين، رأسها مكشوف، شعرها منتوف وهناك بقعة كبيرة من فروة رأسها حاسرة لا يغطيها شعرها الناعم! وكأن أحدهم قد تعمد تشويهها، سلب ملامح البراءة والسعادة من على وجهها! كانت ولازالت ملامح الطفلة حزينة على الرغم من أنها دوما صامتة. هناك جروح قديمة مندملة تغطي مساحة كبيرة من وجهها، وسيل دم جاف، كأنه خيط من الدم يبدأ من رأسها الذي لازال يحتفظ برقعة شعر الى رقبتها الصغيرة! لا اعرف من هي، ولمَ تزرني تلك الطفلة؟ تظهر في رأسي بفترات متفرقة، أحيانا متلاحقة، وأحيانا – خصوصا عندما أكون غاضبة او متوترة – تظهر في رأسي كلما رمشت عيناي او أغمضت جفني!




أحيانا تزورني في الأحلام، لم تحادثني قط! دوما صامتة، ترتسم على وجهها ملامحها الحزينة، تعبيرات لا أفهمها! أحيانا تومئ لي، تشير بإصبعها المرتعش لمكان بعيد لا ينتهي، تنظر داخل عيني بشغف، بحب وأحيانا بغضب، ولكنها لم تضرني يوما! لم تضربني، لم تحرقني، لم تصرخ بوجهي كما يفعل الأشرار بأفلام الرعب! لم أشعر يوما في الرغبة بالهرب منها، بالتخلص منها! أصبحت مع الوقت قريبة منّي، تلازمني كظلي، اعتدتها واعتدت وجودها المفاجئ في رأسي، في نومي، حتى في أحلام يقظتي. أغضب منها أحيانا عندما تظهر في وقت غير عادتها، أتجاهلها عندما تظهر في فترات راحتي، شوقي، شغفي، سعادتي! اغضب ليس لإنني لا أريدها، بل لإنني أرغب بالتفرد بنفسي ولو بضع حين!




- سيدتي .. استيقظي .. لقد وصلنا وجهتنا، يجب ان ترفعي الكرسي وتربطي الحزام ..




افتح عيني، يضربني ضوء الشمس الذي تسرب من انفراجة صغيرة أسفل النافذة جارتي، أمد يدي وأفتحها كلها واستنشق اشراقة شمس صباح جديد. متى نمت؟ وكيف أغمضت جفني بعد أن حلمت بالمضيفة التي تحمل الطفلة إياها؟ وكيف نمت كل هذه المدّة بلا أن تعاود الطفلة الظهور مرة أخرى في حلمي. هبطت الطائرة في مطار "سيدني"، ضممت الغطاء أقرب الى صدري، شكرت الله على السلامة، وشكرت الطفلة على استفاضتها في الرحيل مما ساهم في نومي أطول وأعمق الى أن وصلت لوجهتي.




ثلاثة أيام بين صالة المؤتمر والغرفة، تمر الساعات بشرعة 100 حصان تترك خلفها خيطا ضئيلا من دخان احتراق طاقة إنسان! لا أكاد أصل الى غرفتي حتى أضع رأسي على الوسادة واغفو، تلك الغفوة توصلني بسحائبها الرائقة الى بوابة اليوم التالي. لا وجود للطفلة .. لإنني لم احظ الى الآن بدقيقة واحدة لنفسي.




في اليوم الأخير، في الصف ما قبل الأخير لمحاضرة تطرق موضوعا استثماريا مملا يجلس بجانبي رجل أبيض نحيل ذو لحية كثة بيضاء، يرتدي بنطلون جينز فضفاض وقميصا بطلعات حمراء متشابكة. ينظر لي من طرف عينيه كلما سنحت له فرصة ! اتجاهل العجوز وانظر في ساعتي، الاحظ أنه ينظر فيها معي.




المحاضرة الأخيرة .. اليوم الأخير .. الساعات الأخيرة قبل أن أترك الفندق وأتوجه للطائرة، اجلس على كرسي عالي في مطعم الفندق، ارتشف فنجاي شاي اخضر وأراجع ملاحظات التقرير الذي يجب ان اعدّه للإدارة عن المؤتمر ما إن أعاود العمل. يد متعرجة تستقر على يدي، دافئة وناعمة بالرغم من خطوط العمر. لم أقفز من مكاني ولم أشعر بذلك الخوف التقليدي عندما يتعدّى أحدهم على حيزنا. التفت بجانبي لأرى ذاته هو الرجل، بلحيته الكثة وعينيه العميقتين. هذه المرة يمسك يداي :




- أخبريني قصتك !




ترتسم على وجهي علامة استفهام كبيرة، تتدلى شفتي السفلة وأشعر أنني بحوض دافئ، يتنمل رأسي وهو يخبرني أنه خبير جنائي وبروفسور في علم الأدلة العضوية وتطوّر الصيغة الجسدية لضحايا العنف والتعذيب! أتوه بألف متاهة وهو يرسم بإصبعه على وجهي ورأسي وشعري خريطة لبقايا جراح قديمة جدا .. لم اعد اتذكرها!




أراكم اليوم في معرض الكتاب ...

$
0
0





 

اليوم الخميس 21 -11 - 2013  في معرض الكتاب بمشرف .. سيكون حفل توقيع روايتي التي بدأتها هنا في المدونة "نتلاشى للأمام "

في جناح نوفا بلس  قاعة 5 - جناح 49 الساعة 8:00 مساءا

 

 

أراكم عن قريب ..

سارة المكيمي
 


( سلمـــــــــــــــــــــانة ) 1

$
0
0



لغتهاالعربية و قطع أحجار من كل شاطئ زارته وحجاب على الرأس، ثلاثة أشياء فقط جاءت بها من هناك. هي تركت هذه الأرض لأصحابها و ذهبت الى حيث لا يذهبون، كانت لا تريدهم و لا تريد ان ترى صبغة الشمس التي تترك لونا فريدا على الوجوه. تركت الجميع وتحدّت اللاآت التي سمعت والتهديدات التي ألقيت كالقمامة على رأسها، الصراخ الذي طال أعمق نقطة في قلبها. ذلك الصراخ الذي عاشت معه منذ كانت صغيرة، الصراخ الذي يصم آذانها ويرعبها حتى لو لم تكن هي المخطئة. العينان السوداويين التي يمتزج بهم الزئير فيغدوان بلون الدم. كانت تخاف منهم و لا تنساهم.

غريب أن يغادر الإنسان وطنه و لا تلعب أغنية ما – حزينة كانت أم سعيدة – فيما وراء عقله. هي رحلت بلا أغنية وتبدلت الحان الفراق بغضب صاخب، ولا أيادٍ تلوح عطفا للوداع. لغتها العربية والصبغة السمراء والعينين العسليتين وحجاب ملون على رأسها جاءت بهم من الغربة البعيدة .. و الباقي لا يهم.

في المطار، ذلك الحضن الكبير جلست على المقاعد البلاستيكية المتلاصقة. هي تحب المطارات، فهي بداية كل أمل وخاتمة كل غربة او ربما لا تكون!  تحب المطارات لأنها تضم اكبر لحظات التلاقي، فبعد الفراق عادة ما تنسى الفوارق والخلافات لينتظر كل من الطرفين مرأى الطرف الآخر بقلب نابض فتلتقي العيون وتتلاصق القلوب بلا حواجز وينسى الماضي للحظة.

 صوت المنادي يعج المكان، واللغة المحببة تدغدغ أذنيها فتطرب لوقع الكلمات، ترهف إذنيها و تسمع .

***


(والله تعبنا .. و استحملنا و درسنا، كانت الأيام صعبة والدراسة أصعب بس الفرح كان دايما في قلوبنا، وسعادتنا بإنجاز شي احنا حبيناه خلانا ننسى كل المصاعب و دفعنا  نتطلع للمستقل.)
عجّت القاعة بالتصفيق والدموع ، بدا التأثر على الكثير من الوجوه. كانت كلمة هديل تقليدية،  لكنها عندما وصلت لهذا المقطع، تجاهلت الأساتذة والمدراء والإدارة والتفتت الى زميلاتها وزملائها الطلبة الخريجين. ابتسمت لهم ووجهت لهم الحديث. كانت هديل وسلمانة صديقتان مقربتان، والدراسة كانت واحدة. درستا في تخصص واحد وأحبتاه لما فيه من حيوية و إبداع. هديل واحدة من الطلبة المتميزين في قسم الإعلام، كانت نتائجها الأفضل على مر السنين. عندما طلب الدكتور سامح من هديل ان تلقي كلمة الخريجين في الحفل الخاص لتخريج طلبة القسم دفعة 2001 – 2002 ترددت ولكنها قبلت في النهاية لانها دائما كان لديها ما تقول.
منذ أيام الدراسة كانت سلمانة تعلم ان رأسها يعج بالمعارك، مثل العديد من المبتدئين بالحياة كانت لاتزال تبحث عن شي ما، تبحث بعيدا عنها، قريبا منها، وتبحث في جوفها. كانت تبحث عن شيء يوقف هوس التساؤل ووسواس الضياع داخلها.
 هل نحن ضائعون؟ ام أن ضياعنا وجود؟ هل نحن دوما حائرون على مفترق طرق الحياة؟ أم أن طرقنا موصوفة ولكننا نحن من لا يعلم كيف نجد الطريق؟  لم تكن تعلم من فعلا يستحق الرضا، هي ام هم ؟ ومن حقا يستحق السعادة!  كانت صغيرة وطريّة على مشارف الخوض في تجربة الحياة.
أحبّت سلمانة الحياة مذ كانت صغيرة وظلّت تحبها الى ان تاهت في حبها فضاعت عن الأبواب ووجدت آلاف النوافذ.
 
-        اعجبتج الكلمة ؟
-        هديل !! شرايج يعني ؟ ما شفتيني أمسح دموعي ؟
-        امبلى .. بس عادي انت معروفة .. ممكن كنت قاعد تبكين على شيء ثاني ماله أي علاقة بالتخرج ولا بالكلمة.
تضحك سلمانة عاليا:  لا والله كانت الكلمة، والناس والتخرج والفراق، ماني قادرة اصدق ن ايام دراستنا انتهت!
تقاطعها هديل : زعلانة من أمك ؟؟
-        أمي اختارت ..
-        و انت اخترتِ انك ما تحاولين تغيرين اختيارها!
-        ليش أحاول ؟؟ هي تدري ان هذا اليوم من أهم الأيام في حياتي، زعلانة منّي !! لازم تتغاضى شوية وتحضر حفل التخرج، لا تكلمني .. لا تهنيني .. بس عالأقل تحضر حفل التخرج تشوفني وأنا استلم شهادتي!! بعض المرّات أحس أمهاتنا ما يحسون فينا.
-        صدقيني يحسوّن ، بس عزتهم بنفسهم تخليهم يكابرون.
تقطع جنان الحوار القائم وتنادي المصور الى حيث تقف هديل وسلمانة، تقف في وسط الاثنتين، تنظر الفتيات للمصور بعفوية ويبتسمن ابتسامة بحجم السماء. تومض الصورة، وتضم جنان صديقاتيها الى صدرها.  يجلسن على طاولة مستديرة بالقرب من حمام السباحة الكبير في نادي الأساتذة في حرم الشويخ الجامعي.
كانت الدفعة كلها هناك، دفعة غمرتهم أجمل أيام الدراسة، تعرفوا على بعضهم بلمح البصر وخاضوا معا على مدى الثلاث شهور الأخيرة أكثر الأعمال متعة وإبداع على الإطلاق. عندما يختار طالب كلية الآداب تخصص الإعلام ويُقبل، يعلم أنه في مكان جديد نسبيا. دراسة تمكنت أخيرا من فرض احترامها على باقي التخصصات في الكلية، وطلبتها يعلمون ان فيهم شيء من التميَز. فهم الوحيدون الذين يدرسون في جو مفعم بالأخوة بين الطالب والطالبة، يعملون مع بعضهم و يلتصقون بطريقة غريبة. كلهم يعلمون ان الدراسة لن تكون بغاية السهولة ولكنها جد ممتعة. سلمانة نفسها كانت صحفية في جريدة آفاق الجامعية على مدى 3 شهور مدة التدريب الميداني، وكانت مذيعة لبرنامج أطفال من إخراج صديقتها وضحة، كما عملت كموظفة تسويق لواحد من مشاريع الأطفال الترفيهية. هذا بالإضافة الى مئات الإعلانات المطبوعة التي درسوها والإعلانات التلفزيونية التي حللوها والعشرات من الحملات الإعلامية والتنموية التي دخلوا في معالمها وانتقدوها.
كانت دراسة الإعلام حلم طويل اقتنعت به سلمانة منذ صغرها. وهي صغيرة كانت تحفظ أغاني الإعلانات المختلفة عن ظهر غيب. كانت تلتزم بمواعيد أكثر الفترات عرضا للإعلانات أمام التلفاز وتستمتع فيها كما يتمتع الصغار الآخرون بالرسوم المتحركة وبرامج الأطفال المنوَعة. منذ صغرها كانت تعتقد أنها عندما تكبر تريد ان تعمل مثل تلك الطفلة التي تأكل حبوب القمح في الإعلان وتغني مع النمر الحنون، او تريد ان تكون هي "زينة"التي تذهب مع والدها للبنك وتدّخر في دعاية بنك الكويت الوطني. وهي طفلة كانت تريد ان تعمل كواحد من الإعلانات في التلفاز، كانت تريد ان تكسر التلفاز وتدخل لتغني مع الأطفال "وين وين .. في المدينة الترفيهية ".
عندما كبرت عرفت أنها لا تريد ان تكون إعلانا، لا تريد ان تغني، بل كانت ترغب في ان تصنع الإعلان وتراه يغنى في التلفاز وينشده الأطفال في البيوت في كل مرة يعرض فيها. 

*** 

في مطارات الدول البعيدة يلتقي الناس فيركضون لبعضهم و يتعانقون، تضرب أرجلهم على الأرض بقوة فيخرج صوت الخطوات أعلى من صوت كل الدقائق التي مرّت في ممرات الفراق. يضمان بعضهما بقوة ويقفزان فرحا عارما مع  لحظات الالتصاق. يتمايلان و يذوب الشخص بالشخص لينفضا عن جسديهما كل الوقت الذي مر من بعيد. في المطارات البعيدة، تظهر أصوات الفرح للنور من قعر الصدور لتسمع العالم والمطار البارد ان الصديق او الحبيب او الابن - انه بعد الغياب - قد رجع.
على الكرسي البلاستيكي كانت تنتظر ان يظهر الناس من خلف أنفسهم، كانت تنتظر الخطوات السريعة الصاخبة فلا تسمعها، السلام الحارق الذي يمتد لهبه للناس في المحيط فيعطيهم عدوى الابتسامة والفرحة، فلا تشعر بها. كانت تنتظر الحضن الكبير والبكاء وتأوهات الفرح الممزوجة بضحكات الحزن فلا تجدها في هذا المطار. لماذا لا يشعر الناس بدفء اللقاء وحلاوة العودة هنا؟ لماذا لا يعبرون جسور الزمن لتلمس أياديهم الدافئة الصعيق الذي تتركه الغربة في قلوب العائدين؟ لماذا يترك الحديث كله للمصافحة وبضع هزات طفيفة تتقنها الكفوف التي تخبئ في عروقها دماءا فارت من اللهفة؟
التفتت حولها لتجد الناس جميعهم يلهون عن اللقاء بأشياء اقل أهمية. هل يحتاج المُلتقى لكل هذه المحلات والمطاعم والمتاجر أكثر من احتياجه للشعور الرهيب الذي يخلفه الانتظار للقادم من بعيد؟ شملت البرودة  أطراف المكان و أطراف الناس التي تمد عبر المسافة القصيرة للقادم من بعيد.
عبر الفراغ لمحت عينيها أنثى تنتظر، كانت جميلة ومتأنقة، كانت هنالك شرارة ما في عينيها خمدت لفترة واتقدت اليوم من جديد تطلعًا لمرأى الذي سافر. في يدها هاتف يرن ولا تجيب ومن حولها 3 أطفال غاية في الجمال. غسلت الصغار بصابون وعطر، ألبستهم أحلى ما عندها وعندهم ومشطت شعرهم كثيرا حتى صار خال من العيوب. كان الصغار ينتظرون والدهم بلهفة، يتراكضون هنا وهناك ويلعبون بكل ما يلعب به، يعودون للأم المتألقة ليسألوا عن موعد القدوم. تجلس على ركبتيها لتنظر في عيونهم وتخبرهم انه على وصول. فُتحت البوابة، وفتحت عينيها الجميلتين نورا على الناس الدالفين، كانت تنظر وتنتظر وابتسامة ما كانت لا تفارقها. ارتعشت شفتاها ما ان رأت القادم من بعيد، كان زوجها متألقا ومتأنقا مثلها، هو أيضا استحم بصابون وعطر ومشط شعره حتى تعب. ركض نحوهم ليضم الصغار ويعصرهم بين ذراعيه، تطايروا الثلاثة من حوله، يغنون ويتقافزون، يلمسون كل جزء فيه و يسألونه كل الأسئلة التي قالت لهم أمهم أن يسألوه ما إن يعود. وهي اكتفت بقبلة سريعة على خديها ولمسة خاطفة ليديها الرقيقتين. قبّل خديها وهو ينظر للناس ان كانوا رأوا المشاعر التي فارت بغفلة منه! لم تتعلق المرأة المتلهفة بأحضان زوجها بعد غياب دام شهور، لم تنزف كل ألم الفراق على صدره ما ان رأته، و لم تقبل الوجه الذي نامت طويلا على سرير خال تحلم به. لم تخضبه بدموعها، و لم تلمس الجسد الذي كانت تشتهيه كل ليلة.
 لازال التعبير عن المشاعر الإنسانية الصادقة حكرا على الغرب الذي لا تحكمه قبضة العيب، ولازلت العفوية محسوبة ضد التقاليد التي تقيّد كل ما يمثله جوهر الإنسانمن تلقائية.
تذكرت و هي تجلس هناك، كم كان يؤلمها و يسعدها هذا المكان، فارقت العديد من الأصدقاء حتى وإن كان فراق مؤقت، فالفراق رحيل، والرحيل حاجز جغرافي كبير يبعد الوجه عن العين والحب عن القلب. لم تصدق يوما ان البعيد عن العين بعيد عن القلب. و لكنها عندما قررت الرحيل ابتلعت غصة المقولة وأقنعت نفسها أنها ستنساهم.
و هي هناك .. كانت تنتظر اللحظة التي ستنساهم فيها، لحظة فقدان الذاكرة كما كانت تسميها، كم كانت تود لو ينقلب فيها القطار، ان تسقط فيها الطائرة  فلا يتضرر إلا ذاكرتها. كانت تتمنى لو يُسقط الله زخّة كبيرة من المطر فتقع على رأسها و تنسى أناس سكنوا ماضيها. كانت تحب حياتها، متمسكة بخيوطها ولكنها أماتت جزءا منها لتحياها كيفما شاءت!

أتى الصوت المنادي من جديد، ارتعشت في مكانها ورفعت رأسها لسقف المطار، وابتسمت من جديد على نغمات الكلمات.

يتبع ....


( سلمـــــــــــــــانة ) 2

$
0
0





نقاش دار في وسط المعيشة، بين رأسين مختلفين تماما يعيشان في ذات المنزل ولكن بقلوب متباعدة ..

-        يمّا .. باجر حفلة تخرجي .. مابي أي شي يشغلني عنها.

-        يعني شدعوه الناس إللي بيون بيشغلونج عن الحفلة؟ الحفلة الساعة 7، وأنا قلت حق أمة ايون الساعة 5، ما راح يقعدون اكثر من ساعتين!

-        اشدراج ؟؟ يعني اذا صارت الساعة 6:30 بتقوليلهم يالله طلعوا بنتي عندها حفلة تخرج؟؟ وتظمنين يعني انهم بيون 5 بالضبط و ما راح يتأخرون؟

-        إي اقول لهم يطلعون اذا صارت الساعة 7، و أدق عليهم الحين واقول لهن ما يتأخرون.

-        يعني ماكو إلا هاليوم ؟؟ خليني اركز على فرحة تخرجي.

-        و انتي خليني أركز على فرحة زواجك، بنت خالتك خالدة تزوجت، وأسيل بنت عمتك إللي اصغر منك تزوجت من سنة وعندها ياهل، وكاهي رانيا انخطبت .. و انت خليج قاعدة في البيت.

-        ردينا على هالإسطوانة !!

-        أنا قلت .. ما راح إينيا من دراسة الإعلام إلا عوار الراس، قوليلي هذا أي ريّال يرضى ياخذ وحدة خريجة اعلام. باجر توقف له وتقول له باشتغل مذيعة وإلا مخرجة توقف كتف بكتف مع الرياييل!! أنا قلت حق ابوج .. لا تخليها تدرس هالدراسة الزفت .. بس ما سمع كلامي! شفيهم المدرسّات ؟؟ ياحلوهم .. أول البنات إللي يتزوجون المدرسات !

تقفز سلمانة من الكرسي الكبير وتهم في الذهاب نحو غرفتها، تكمل والدتها الحديث:

-        الحين شقول للناس ؟ ايون والا ما ايون ؟

تلتفت سلمانة و تصرخ:

-        لا ايون .. لا هلا ولا مرحبا

-        لا هلا ولا مرحبا فيج .. الشرهةعلي أنا إللي احاتيج واحاتي مستقلج ..

تقاطعها سلمانة:

-        لا تحاتين مستقبلي .. الحمد الله أول خطوة في مستقبلي وضمنتها،  والريل قسمة و نصيب لما الله يكتب بيطق الباب و بقول اهلا وسهلا.

-        ما ادري شلون بتفيدج هالشهادة بدون ريل ؟؟ اهي إللي بتعزج و ترزج وتحطلك بيت وعيال بعد عينّا انا وابوج؟؟

-        اذا الشهادة ما راح تعزني و ترزني عيل منو إللي بيعزني؟؟

-        ترى الكلام معاج ما منه فايدة

-        ادري

-        عيل روحي حفلتج .. خليها تنفعج .. أنا مالي خلق اروح

-        ما راح تيين حفلة تخرجي؟

-        لا

انسحب رأس سلمانة إلى الأرض، وذهبت ببطء شديد لغرفتها، كانت خطواتها ثقيلة، تتباطأ أكثر وهي تمشي علها تسمع صوت والدتها من بعيد تخبرها انها ستكون هناك.

 ما الذي يدفع ذلك الجنون للانفجار في رؤوس أمهاتنا؟ وكأن العالم سينتهي عندما تنعم فتاة من العائلة الممتدة بالزواج قبل الأخريات؟ هي غيرة من بعضهن! تنافس غريب؟ أم انها تقاليدنا وأعرافنا المدججة بالرسائل الضمنية؟

عندما تتزوج الفتاة سريعا، فهل هذا يعني انها الأجمل؟ الأحسن خلقا؟ الأعرق أصلا ؟ او ان والدتها أتقنت تربيتها وان والدها حفظها وصانها وجعل منها أميرة غالية فاز من اقتناها؟ ألهذا تموت وتحيى الأمهات عندما يتأخر النصيب؟ لأنهن يعتقدن ان هناك خطأ ما في بناتهن وبالتالي خطأ ما بهن؟؟ من آمن بنفسه وحدها علم ان الحياة لا تسيرها الأخطاء ولا النسب، وان الجميل هنا، قبيح هناك، والصحيح هنا من الممكن ان يكون منتهى الخطأ هناك! تتأمل الأمهات فرصة الزواج لبناتهن بعض الأحيان بلا تطلعات، الشرط الوحيد ان يكون رجلا و حسب،  باعتقادهن ان تسمى الفتاة "متزوجة"أفضل مئات المرات من ان تنعت بـ "عانس". 



***



على الكرسي البلاستيكي البارد سمعت صوت الزغاريد...
 قطعت تلك الصرخات الشعبية غفلتها فالتفتت الى الممر الكبير الذي يقود القادمين الى أحضان الوطن او سواعد المُغترب. شاب جميل جاء من بلد بعيد، رسم ابتسامة موغلة في الاتساع على وجهه، يلمع شعره ويدعو هندامه الى آخر ما توصلت اليه صيحات الغربة. "جينز"ازرق من True Religion Jeans، بلوزة تي شيرت حمراء تسطع من بعيد برسومها الغريبة. من كان هناك سيعلم ان Ed Hardy قد علق وسامه على صدور رجالنا. حذاء رياضي معتق، حقيبة كمبيوتر محمول منBally  وحقيبة سفر جلدية متوسطة الحجم تلمع عليها نجمة  Mont Blancالسوداء. شاب بمنتهى الحياة ، منتهى الجمال. آت من غربة ما بمنتهى التأنق وبأغلى الأثمان. تبعته عيناها ملتصقة بنظرة كاسحة اعترت محياه. رأى أحدا ينتظره من بعيد فاتسعت الابتسامة أكثر. سمع صوت الزغاريد من جديد فأطلق ضحكة ملؤها الفرح والخجل. أخذت عيناها منه وألقتها على الطرف الآخر من ممر اللقاء. الى أين هو متجه؟ على أي كتف سيلقي رأسه وفي أي حضن سيغوص؟

فتحت المرأة في نهاية الملتقى يداها كبيرة كالدنيا، اتسعت عيناها وشهقت حواسها وهي تحتويه، احتوته ففاضت لهفتها به، قبلته وقبلها، قبل رأسها ويداها و لم يحسها. لم يشعر بدفء شفتاها على خده، كان هناك حاجز من قماش أسود يغطي كل بقعة من جسد أمه الطاهر. لم تستطع الانتظار فرفعت البرقع الأسود من على فمها وطبعت قبلة حقيقية بكل عطورها وبخورها على رأسه، ضمها بعنف وراحا يذوبان.

غريب ذلك الولد الجميل، كل ما فيه مكتوب تحت عناوين المدينة وأي مدينة؟ عرفت من الملصق المعلق على حقيبة محمولة انه من "نيويورك، من "مانهاتن"جزيرة المليون لون، والمليون لغة والمليون شكل والمليون رائحة. تعددت الوجوه في ذلك المكان الخانق حتى مل الناس فيها من مرأى الوجوه الطبيعية. فبدءوا يبتدعون أشكالا جديدة لوجوههم وألوانا جديدة لجلودهم، لا شيء غريب في نيويورك ولا في مانهاتن لإن المدينة والجزيرة اصبحتا عنوانا للغرابة وملجأ لكل ما هو غير مألوف، لذلك تسمعهم دائما يقولون "!Its very hard to impress a Newyorker"
كيف استطاع ذلك الولد الخارج من سواد النساء ان يستنشق آلاف النساء بألوانهن الزاهية؟ كيف هضم الراب والجاز والكرمب من على شوارع نيويورك وحاناتها بعد فن النبط ورقصات العصي والسيوف؟ كيف عاش في ناطحات سحاب مانهاتن بعد الغرفة الصغيرة في البيت البسيط؟ كيف فسّر نهود الرجال؟ و ماذا فعل عندما رأى للمرة الأولى رجل مخنوق تحت فستان مزركش يمشي في اروقة "سوهو"؟
كيف كانت تلك الفترة الانتقالية من جهراء الكويت الى الآبر إيست سايد؟ ومن ساحة الرمل والطين الى التايم سكوير؟
لهجة أمه البدوية وزغاريدها المتقنة دلّت على عراقة من نوع آخر؟ تلك الإنسانية البدائية المعجونة برائحة بيوت الشعر وجلود الحيوانات، تلك الأنوثة المغسولة بعطر الزهور البرية وكحل الصحراء الفاحم، تلك الحياة البسيطة المليئة بتعقيدات العيب والتقاليد التي اختلط حابلها بنابل الدين فلم نعد نفرق متى ينتهي ذيل الأعراف ومتى يطل الرأس الحقيقي للعقيدة؟
ليتها تعرف ان ولدها دفع مبلغا وقدره لبوذا عندما ابتاع  بنطالا يروّج للديانة الحقيقية بكرش بوذا ورأسه الأصلع!  ليتها تعرف ان الرسومات على صدره مأخوذة من عرّاب الوشم والوشامين في أمريكا كلها، امتدّت رسومات "دون إد. هاردي"من هاواي حتى استقرت على صدور الرجال ونهود البنات، فاتخذوا خناجره وقلوبه وكلابه وجماجمه أوسمة تناقض كل ما فيهم من عروبة وتنافي كل ما تبقى لديهممن دين.  
ابتسمت عندما مر الاثنان بجانبها، فسمعت صاحب الحقيبة الفارهة التي لو علمت أمه بكم اشتراها لربطته في اقرب شجرة نخيل قرب منزلها. سمعته وهو يحدثها بلهجة طفولته، لكنة بدوية محببة بدت ثقيلة لوت لسانه حتى كاد فكه ان يسقط بين قدميه. سمعتها وهي تعاتبه على الفراق وعلى عدم الاتصال، سمعتها تناديه: "ريحة اهلي"ويرد عليها "تاج راسي"، مصطلحات لم تسمعها منذ سنين. كلمات كساها الغبار وشيء من السخافة بعد ان عفّر العطب رائحة أهلها، وتمرّغ رأسها بتاج الغربة.
 عينا والدته تكادان تقفزان بين سؤال وسؤال. تتطاير نظراتها من بين حفرتي برقعها فيغرق الولد ببئرين من حنان بعد غربة طالت.
ذهب النيويوركي إلى البيت، دافئا تحت عباءة والدته تلفه من كل صوب، وهي جلست على الكرسي تتساءل .. ترى ماذا في الانتظار؟

يتبع ....


( سلمــــــــــــــــانة ) 3

$
0
0
لوحة Jane Burt
فياحد المطاعم الرائجة على شارع الخليج العربي في الكويت جلست سلمانة وهديل ينتظرن جنان، يقضون عادة وقت الإنتظار في مناقشات نسائية ثورية بحته:

-        أنا متأكدة ان اللي اخترع كلمة عانس هو ريّال، لاحظي حروف الكلمة .. لاحظي طريقة نطقها، لاحظي صوتها و موسيقاها. كلمة جدا قبيحة "عنس .. عانسا .. عنوسة "و الله كأنها مسبّة. عشان جذيه أمي تفضل تسمع "بنتك ماتت "و لا "بنتك عانس".

-        لا .. مو لي هالدرجة!

-        و الله يا هديل لي هالدرجة و نص.

-        المشكلة ان الفجوة بينا وبينهم قاعد تكبر جيل بعد جيل،  كانت أمنياتهم زمان "ريل \ بيت \ عيال"، الزواج بحد ذاته كان الإنجاز الأكبر إللي تنتظره المرأة عشان تكتمل إنسانيتها، وتحقق ذاتها. الحين تغيّر الوقت وتغير الوضع. نبي نبني نفسنا، نحقق مستقبلنا، نلقى ذاتنا. واذا عرفنا منو احنا بالضبط راح نلقى الشريك الصح اللي نعيش معاه الزواج الصح. وما نرجع بيوت أهلنا مطلقات.

قفزت سلمانة بحنق:

-        "مطلقة"شفتي حتى هالكلمة حروفها قبيحة .. "طلق .. طالق .. مطلقة" .. ما ادري منو يخترع هالكلمات!!

تقترب جنان من بعيد .. تبدوا أجمل من المعتاد، عيناها تلمعان وترتسمان على شفتيها ابتسامة من نوع آخر، ترتدي ملابس جديدة.  تقترب لتجلس على الكرسي الثالث من الطاولة الرباعية. تنظر اليهن و تبتسم.

-        عندي خبر ..

     أنا انخطبت .. أمي و أبوي بيسألون عنّه هالكم يوم .. و بعدين بنملج بعد شهر !

تنتظر جنان ردود افعال احتفالية، تلتقي عيني سلمانة و هديل و تبدآن في ضحك بلا سيطرة.


***

 لم تنتظر سلمانة كثيرا لتتلقى الإتصال، خريجي الجامعة السذّج يلتهمون الصحف اليومية كل يوم علهم يجدون أسمائهم معلقة على صدر صفحة التوظيف في وزارات الدولة، سمعت أمها تنادي من قعر صالة المنزل،  أخبرتها ان اسمها مكتوب في الجريدة. أخذت سلمانة الجريدة بحماس وقرأت طابور الأسماء من جديد على الرغم من ان أمها قد طوقت اسمها بدائرة حمراء. العديد من خريجي دفعتها قد وزعوا على وظائف "شاغرة "في وزارات الدولة كل حسب حظه وطبقا لتحركات والده. لازالت الكويت الصغيرة صعبة المراس، تلك الدولة التي بدأت من لاشيء وانتهت لكل شيء. كيف تحوّلت بساطة الوقت ورقة الإنسان فيها الى غابة من مئات العقبات. كيف تحولت بين ليلة وضحاها بيوت الطين الى قصور وقلاع؟ كيف أصبح الماضي المليء بالتواضع والإنسانية والصراع من أجل البقاء، حاضرا موغل في الكبر والعنجهية. كانوا أهل الكويت يعتاشون من البحر، يصنعون سفنهم الخشبية بأيديهم، يمرغون وجوههم في الشمس، يفقئون طبلة آذانهم في قيعان الخليج طلبا للدر، ويبحرون بعيدا عن الوطن، للهند والشام والعراق، يبيعون عرقهم لؤلؤا هناك ويشترون لزوجاتهم الصابرات قماشا ملونا وجوهر، ثم يعودون من جديد. كانوا يحبّون الحياة كما هي، ويحترمون الجميع. كانوا أهل الكويت يبيعون الماء بأيديهم، يجمعون الرماد بأيديهم، يكنسون الدور بأيديهم ويحبون بعضهم بأيديهم. كان أهل الكويت مجتمعا دافئا صبغته طيبة الحياة وكنوز القناعة.
و تبدّل الحال ..  فبعد سنة الطاعون والسور والهدّامة جاءت الوجوه البيضاء لتخرج رائحة زنخة من قعر الأرض القاحلة وتزرع كل شبر فيها بقصور وقلاع. نفض السمر اللؤلؤ من على أكتافهم وبدؤوا يتزينون بأطنان من الذهب الأسود. تيجان وخواتم وقلائد لزجة أثقلت رؤوسهم بنهم المال والبنون. ضرب الكويتيون أرجلهم بالأرض فخرجت كنوزهم المدفونة. امتلأت بطونهم وانتفخ بطن الأرض حتى ارتفعوا إلى مكان لا احد يعرفه. أصبحوا كويتيون وكل من بالأسفل لا يهم. تنكروا لماضيهم صبياناعلى ظهور السفن، وتجّارا في ربوع الهند. ركلوا الطين الذي كان يوما بيتهم و ملجأهم.   

ذهبت في اليوم التالي لوزارة تجارة وصناعة الكويت، طلبوها ليقدموا لها على ورق من ذهب عقد العمل الذي انتظرته لستة شهور بعد التخرج. في الكويت .. تكفل الدولة وظيفة لكل مواطن في وزاراتها ومؤسساتها. فبعد التخرج ينتظر الطلاب أسمائهم لتفرز عشوائيا او لا عشوائيا على الجهات الحكومية المختلفة، تقتاد الدولة مواردها البشرية الى مستقبلهم الوظيفي وتهبهم راتبا شهريا ان عملوا وان كانوا لايزالون في انتظار العمل.

دخلت مجمع الوزارات الكبير، بوابات ضخمة بأفواه مفتوحة في كل صوب، موظفين، مراجعين وشرطة يحرسون المكان ويغرسون مخالبهم في كل حقيبة يد. سئلت عن موقع وزارتها فدلّوها الى هناك. طرقت بابا عتيقا في المنتصف ودخلت مكتبا أعيدت صياغته مرات ومرات. استقبلتها موظفة الشئون الإدارية بابتسامة ملؤها السأم. أعطتها ورقة وأشارت الى مكان التوقيع. وقعّت سلمانة ووقفت في المنتصف تنتظر. قامت الموظفة الضئيلة الى جارور حديدي فتحته وألقت بورقتها في فوضى الجارور وأغلقته حتى دوّى. جلست على كرسيها من جديد وأخذت تعيد قراءة مجلتها، انتظرت سلمانة على عتبة الباب توجيها من أي نوع، أحست الموظفة بوجودها فرفعت رأسها:
-        خلاص روحي
-        وين أروح
-        روحي إدارتك .. وين مكتوب انك توظفتي ؟
-        ما ادري
-        وين ورقتك؟
-        أي ورقة؟
زفرت الموظفة وأخرجت هواءا من انفها اعتراه الغبار، توجهت الى الخزانة الحديدية، فتحت الجارور من جديد وأخذت أوراق سلمانة، فصلت الورقة الأولى عن الثانية، ألقت بالأخيرة في غياهب الجارور ودوّى مرة أخرى .. توجهت نحو سلمانة وابتسمت:
-        وي آنا آسفة .. نسيت لا اعطيك نسختك من العقد.
قرأت:
-        انت في إدارة المنظمات العالمية – مسماك الوظيفي إداري
-        اداري شنو؟
-        و الله ما ادري
-        يعني شنو شغلي؟؟ شنو راح اسوي؟
-        اعتقد ان شغلكم يتعلق بالعلاقات والمراسلات مع منظمة التجارة العالمية اذا ما كنت غلطانة .. توها وحدة اسمها ميساء توظفت بنفس مكانك، توها اطلعت من عندي .. لحقي عليها عشان تروحون مع بعض.
شكرتها سلمانه وخرجت مسرعة من الباب، سعدت عندما علمت ان هناك شخصا آخر مثلها تماما، معصورا بمطر الضياع. توجهت الى ادارة المنظمات العالمية ورأت طيفا ضائعا تاهت خطواته بين الممرات والأروقة. اقتربت من الفتاة:
-        ميساء؟
التفتت الفتاة بفرح:
-        هلا !
-        أنا سلمانة .. انا اليوم داومت وحدّي ضايعة
ابتسمت ميساء بفرح .. و ضحكت:
-        وي يا بعد عمري .. الحال من بعضه  .. تعالي تعالي
اقتربت سلمانة من ميساء اكثر، شبكتا ذراعيهما.
بعد المرور على المكاتب وبعد السؤال والتقصّي  والإستفسار .. وجدتا المكان المنشود. توظفتا تماما في نفس الإدارة، في ذات القسم وفي عين المكتب. استقبلهما مدير الإدارة وتحّدث عن مهام ومسؤوليات الإدارة، كان قبيحا الى ابعد الحدود، تدوّي ضحكة رخيصة من فمه بين حين وآخر على نكات سمجة هو يلقيها. قطع رنين الهاتف حديث المدير فرفع السماعة وأخبر المتحدث من الجهة الأخرى انه سيعاود الاتصال. اقفل السماعة ونظر للفتاتين بعينين تلمعان:
-        هذي صاحبتي .. احلى من ام العيال بألف مرّة ، طبعا تستغربون إني اقول هالشيء بصراحة. بس ترى أنا معروف Very open minded . أنا اقعد بحالي لا لي ولا علّي. بس لما تييني وحدة حلوة وامورة وتقول لي احبك.
يفتح ذراعية واسعتين:
-        أقولها يا هلا و يا مرحبا ..
نظرت ميساء الى عين جارتها فوجدتهما لا تتحدثان، ملئ الضباب عينا سلمانة واعترى وجهها جمود غريب. تحدّث مدير الإدارة أكثر، ثم أمر إحدى سكرتيرتيه ان تأخذهما الى مكتبهما. سارتا بتخبط، لا تجيبان ولا تستجيبان، فتحت باب اول مكتب في ممر الإدارة ودخلتا، غرفة صغيرة ومكتبان متواجهان. تجلس موظفتين صغيرتين وجميلتين على مكتب واحد بكرسيين مختلفين. والمكتب المواجه فارغ إلاّ من كرسيين متلاصقين. أشارت السكرتيرة الى المكتب فعرفتا انهم سيتقاسمان الطاولة وجهاز الكمبيوتر والهاتف. رحبت بهما وذهبت.
مرّ الوقت ثقيلا وبطيء. أحبت سلمانة ميساء ولكنها لم تستطع فتح فمها، كانا ينظران لبعضهما ثم تسحب كل واحدة عينها الى الوراء. حاولت نجود و سحر- جارتاهما في المكتب- ان يتعارفو اكثر، لكن شيئا ما اثقل اللسان و حبس غضبا من نوع جديد. تجاذبوا أطراف حديث بارد ولا شيء أكثر.
سألت سلمانة زميلاتها ان كان هناك عمل تقوم به، ضحكتا وأخبرتها سحر انها موظفة في هذه الإدارة منذ 8 شهور، والى الآن لم تجر الى 3 اتصالات ولم تطبع إلا رسالة واحدة. تلاقت نظرات ميساء وسلمانة  بصمت.
انتهى وقت العمل، كانت اتعس ست ساعات قضتها في حياتها. توجهت سلمانة الى سيارتها، أمسكت المقود ولم تتحرك السيارة، تركته وأمسكت بهاتفها النقال. ضغطت أرقاما وجاء صوت رجل من بعيد.
-        احمد !!
-        هلا
و غرقت في نوع آخر من نحيب وبكاء. 



يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 4

$
0
0

"النداء الأخير"

"على السادة المسافرين على رحلة الخطوط الجوية الكويتية رحلة رقم 236 المتوجهة الى دبي التوجه الى البوابة رقم 27 "

دوى صدى الصوت المنادي واختفى.. نظرت الى سقف المطار علها تلمح وجه الصوت يطل من احدى الزوايا، انزلت رأسها الى الأرض لتجد طفلا صغيرا قد اخذته رجلاه الى مكانها، وقف الطفل بلباسه الأزرق وعيناه اللامعتان تماما عند ساقيها. حدقت في عينيه و ابتسمت .. ورّد الابتسامة بواحدة احسن منها.

أشار الى طفلة صغيرة تنام على بعد خطوات منها .. وضع سبابته على فمه و قال لها اششششششششششششش.

نظرت الى الطفلة .. ثم اليه، ابتسمت ووافقت مشاركته حواره، أومأت برأسها نعم ثم وضعت هي الأخرى سبابتها على فمها وقالت له اششششششششششش.

نظر الى الطفلة من جديد، ثم نظر اليها، اغمض عينيه، احنى رأسه على راحة يده، وقال خ خ خ خ خ خ خ خ خ 

ضحكت و قالت له: نعم .. هي نائمة .. اغمضت عينيها ورددت خ خ خ خ خ خ خ خ

ضحك الطفل وضحكت ..

جاء صوت الإعلان من جديد ينادي المسافرين الى وجهاتهم المختلفة، انصت الطفل بعينين واسعتين الى صوت المنادي الى أن انتهى، نظر اليها من جديد و ابتسم ملئ وجهه، أشار الى السقف و قال لها: تن تن تن ...

ضحكت و أشارت الى سقف المطار مشيرة الى منبع صوت التنبيه و قالت له: تن تن تن !!


 دبي !! من الذي دبا ؟ كيف استفاقت جميلة الصحراء فجأة من مرقدها؟ كيف نفضت تلك الأرض الرمل من على رأسها ووضعت في مكانه أجمل هامة من ذهب سحري خالص؟ كيف فتحت سيدة العذارى رجليها فأنجبت مدينة تتوه فيها العيون فولدت حضارة ببضع سنين؟ كيف تحوّلت بيوت الطين الى ناطحات سحاب في اقل من ربع قرن؟ كيف زاد زايد قيمة الأرض أضعاف الأضعاف بلا سيول ولا انهار؟ اين وجدوا المصباح .. و ما هو اسم المارد؟ أين يخفي بن مكتوم عصاه السحرية و بكم اشتراها؟؟
من الذي دبا؟؟
دبّت الأحلام في المنام فلم يخنقها أحد! دبّت الأفكار في الرؤوس الفتية فلم تعصرها أياد الشيوخ، دبّت التطلعات في الأفق فلم ترسلها الرياح إلى ما وراء الشمس. اشتعلت المغامرة في أياد المستثمرين، مدّوا أيديهم فوجدوا يدا قوية وكلمة تقطر عروبة تصافح الأمل وتعبّد كل صعوبات المستقبل.
 
دُبي!!
 دبّت الحياة في كل العروق التي نست طعم الحياة،  ودبّ الدم يجري في حقول ملؤها الكسل. لا مزيد من الكسل، و من يتوان في العمل فسيدبي بعيدا عن دبي ..  لا مأسوفٌ عليه .
حفروا البحر و غرسوا النخلة شامخة وجهها بوجه القمر، و بنو برجا عربيا تمنته كل الدماء التي رفضت لون العرب. قصّوا رقعة من نور ووضعوها على صدر الأطلس ليشع نورها في وجه العالم.

هل حقا يفخر الإمارتين في دُبي؟ ام أنهم وجدوا أنفسهم وسط دوّامة من صراخ لا يتوقف هديرها؟ هل فتحت الدهشة عيونهم فاتسعّت وتمددت إلى أن انفجرت داخل محجريها؟ هل اعتراهم الذهول من قيامتهم التي قامت قبل العالم ولم تنته؟ ربع آلات البناء الحديثة والمكنات الثقيلة في العالم موجودة في دُبي. بناء وعمران، جسور وحدائق، جزر وفنادق، ناطحات وشركات أتت من كل صوب، غرست أعلامها في صدر دبي وطالت منها ما طالت.
 ترى .. أين البيوت؟


***

على مكتبها في الغرفة المشتركة، قابلت سلمانة وجهتها اليومية ومتكأها الصباحي، فأرة الكمبيوتر أصبحت لا تفارق يدها، أصبح الإنترنت شغلها الشاغل في مكان الدوام الرسمي الذي لا يشغله أي شاغل. كل صباح تقرأ سلمانة الصحف على الإنترنت، تتصفح المجلات على الإنترنت، تقرأ رسائلها وتجيب عليهم، ترسل ما يجب إرساله وتتعرف كل يوم على أناس جدد في My Space.
 يرن هاتفها المحمول فتلتقطه وتتحدث دون ان ترفع عينييها عن شاشة الكمبيوتر، و يأتي صوت المتحدثة:
-        هاي سلمانة
-        هلا .. ويييه من وين الشمس طالعة؟
-        أي والله من زمان عنكم.
-        من أول ما تعرفتي على تعيس الحظ وانت ما تنشافين! شلون العلاقات .. مستتبه؟ قال متى بيون اهله يخطبونج؟
-        لا لمّا الحين .. بس الحمدالله .. أنا وايد سعيدة معاه. كل وقتي قاعد اقضيه عنده.
تنتشل عيناها من الشاشة، تبعد الهاتف عن اذنها وتنظر في شاشة الهاتف كأنها تتأكد من هوية المتصل، تعيد الهاتف لأذنها وتسأل:
-        عنده وين؟
-        في الشقّة .. رحنا وشفنا شقّة وايد حلوة في بنيد القار، غرفتين وحمامين وصالة ومطبخ .. وأجرناها على طول.
تنظر لشاشة الهاتف من جديد وتصمت أكثر من المرة السابقة .. تعيد الهاتف الى اذنها:
-        اهو الحين عنده شقة ؟
-        أي !
-        و انت تروحين تقدين معاه في الشقة ؟
-        أي
-        مريم ؟؟
تدوي قهقهة خفيفة من داخل الهاتف:
-        و الله ما كنت ادري ان الحب حلو جذي !
     صمت ..
-        خلاص .. الشقة شقتي والبيت بيتي .. هذي الشقة إللي بنتزوج فيها
     صمت ..
-        احنا الحين في حسبة المتزوجين !!
-        بس انتو مو متزوجين !!
-        لا ..  في قلبي قلت "زوجتك نفسي "و اهو جدامي قال "تزوجتك يا مريم امام الله و الرسول"!
-        مريم انت نمتِ معاه ؟
ذاتها الضحكة اللطيفة ولكن بمزيد من الخجل:
-        هاذي امور ما تنقال في التلفون.
بتعجب و ببراءة:
-        مريمو .. انتي لمّا الحين بنت .. صح ؟
-        سلمانة .. خلاص ..الشاطر يفهم .. وانا ما ابي اتكلم في الموضوع! .. هاذي حياتي وقراراتي وأنا المسؤولة عنها.
     صمت ..
-        انا داقّة اسألج .. متى بتسوّين يمعة البنات إللي قلتي عنها؟
-        أول اربعاء من الشهر الجاي ان شاء الله
-        وجنان العروس .. قالت بتيي وإلا لمّا الحينها قاعدة تسبح بالعسل؟
-        قالت أوكي .. ما ادري اذا بتهوّن وإلا لا.
-        انتي شفيج؟ فيج شي؟
-        لا مريم .. بس خايفة عليج.
-        لا تخافين سلمانة .. أنا أدري شنو قاعد أسوّي .. وواثقة من محمد ان عمره ماراح يتخلّى عنّي.
-        ان شاء الله
أقفلت سلمانة سمّاعة الهاتف .. لم تستطع الاطالة .. لم تقو على سماع المزيد من السخافات المعجونة بتلك الكمية الهائلة من الرعونة والسذاجة. وضعت سماعة الهاتف على المكتب وضمت نفسها وهي ترى ميساء تقترب اليها من بعيد. سألتها ان كانت قد انتهت من الكمبيوتر. هزت سلمانة رأسها بشرود. أخذت ميساء مكانها على المكتب أمام الشاشة وسألتها ان كانت بخير! اخفت سلمانة دقات قلبها العالية وابتسمت شاحبة:
-        بس حاسّة بشوية تعب ..

يتبع ...


( سلمــــــــــــــــانة ) 5

$
0
0




جنان وسلمانة وهديل وليلى وآمنة، صديقات الدراسة، يجتمعون كل ثلاثاء في أحد مطاعم المدينة المعروفة، كانت مريم واحدة من المجموعة التي لا تفترق، ولكنها ما ان وقعت بحب محمد اضحت تختفي وتتخلف عن الكثير من هذه التجمعات التي عادة ما تشغل بنقد الأحوال الشخصية، مناقشة الأوضاع الأسرية، مع القليل من الحش والنميمة بعد عرض أخبار الزميلات والصديقات المشتركات. كثيرا ما ينتقين واحد من المطاعم الواقعة في صدر المجمعات التجارية الفارهة ليمتد نشاطهم الاجتماعي الأسبوعي الى ترفيهي تجاري بحت ينفقون فيه ما تبقى من الراتب الشهري على كافة احتياجات الفتيات شهريا ونصف شهريا واسبوعيا ..

تتميز صداقات الفتيات في مجتمعاتنا بالإنفتاح اللا محدود أحيانا، فالبنت غالبا ما تخشى او تخجل من ان تكون صديقة قريبة من والدتها ويستحيل ان تكون رفيقة صريحة مع والدها او إخوتها الذكور. حتى وان حاولت الأم يبقى هناك حاجزا من العيب والخوف يتخلل تلك العلاقة، فلا ترتاح البنت ولا تتقبل الأم مهما حاولت.


جلست الفتيات على الطاولة يناقشن قضية مريم التي طرحتها سلمانة مسبقا في حوار سرّي مشترك على الهاتف:

-        آمنة: أنا ما ادري انتو ليش مكبرين الموضوع .. ملايين البنات والحريم في أوربا وأمريكا هذي حياتهم اليومية. شي عادي انها تحب وعادي اكثر انها تقرر شنو تسوي في حياتها. لمّا الحين انتو تؤمنون بالحب العذري وقصة حبني واحبك بس من بعيد. لمّا الحين حسبالنا الحب مثل الأفلام، تنزل البنت من الدري بالخطوة البطيئة وموسيقى رومانسية من وراها. واقف تحت رافع راسه ومسبّل عيونه عليها وعلى جمالها وحيائها، واللقطة الثانية نشوفه قاعد يكلم أمه عنها ويترجاها تخطبله البنت! يا ماما راحت ايام بنت البنوت إللي ما تنجاس ولا تنباس .. الحين الكل يجيس والكل يبوس ..

-        جنان: لا والله ما راحت .. احنا ما انولدنا ولا تربينا ولا كبرنا مثل الغرب عشان نسوي إللي يسوونه!

-        هديل: خللي التربية والتقاليد على صوب .. احنا مسلمين .. الزنا في ديننا من اكبر الكبائر.

-        جنان: و بعدين يعني ما تقدر تصبر لمّا تتزوج؟

-        آمنة : وليش تصبر؟؟ انزين  اذا صبرت سنة، سنتين .. عشر .. وما يالها النصيب .. ماحد خطبها
ولا احد تقدم لها ؟؟ يعني تموت البنية محرومة.. هذا ظلم.

-        ليلى: يعني انت قاعد تقولين ان الله ظالم؟؟

-        جنان : استغفر الله . . استغفري ربك أمّون ..

-        آمنة: قريت مرة مقالة عنوانها: "من اين جاء الإنسان بمفهوم العنصرية؟ "، ليش فرّق الإنسان بين الأبيض والأسود ؟ والهندي والياباني؟؟ والغني والفقير؟؟ منو إللي عطانا الحق نفضل ناس على ناس ونحترم أشخاص أكثر من أشخاص؟ تبون تعرفون منو؟

-         سلمانة وهديل: منو؟

-        آمنة: الله

تشهق ليلى .. فتسكتها سلمانة:

-        سلمانة : لحظة ليلى خلينا نسمع كل وجهات النظر.

-        آمنة: الله بذاته عنصري.. ليش يعطي شخص مال ويحرم غيره ؟ ليش يعطي شخص أولاد ويحرم الثانين؟ ليش يكرم شخص بطاعة وإيمان واقتناع كامل بالدين ويخلي ثانين في الظلمات يعمهون؟ هذي مو عنصرية ؟؟ اذا الله قال في كتابه ان المال والبنون زينة الحياة الدنيا ليش ما كل الخلق ينعمون فيهم؟  على أي أساس فضل الغني على الفقير، والصالح على الطالح؟ على أي أساس فلانة تتزوج وعمرها 16 ووحدة ما تتزوج ولا تشم ريحة الريل ولا العيال طول عمرها؟ يعطينا الأيادي ويقول لنا لا تلمسون؟ ويعطينا القلب و يقول لا تحبّون؟؟ It doesn’t make any sense  !!

-        جنان: هذا يسمونه القسمة والنصيب، هذا القدر إللي الله اكتبه لنا من كنّا في بطون أمهاتنا .. هذي الدنيا، لو كنا كلنّا نملك نفس كمية المال، ونفس كمية الأولاد ونفس الحياة. لصارت الخليقة مالها أي داعي. ما في اختبار للإنسان ولا ابتلاء وأجر، ولا مكافأة وعقاب وثواب.

-        هديل: ولا جنّة ولا نار!

-        سلمانة: الله سبحانه خلقنا بهدف العبادة، العبادة بدون مغريات ما تصير عبادة، شيء سهل وواجب نأديه as an everyday thing، بس شلون يدري الله منو يستحق حبه وعطفه وجناتّه إلا إللي يقبل التحديات و يعدّي العقبات ويتمسك بالعقيدة رغم كل الصعوبات؟

-        جنان: شلون ندري منو اسرع واحد في العالم في الجري.. اذا ما سوينا سباق ؟؟ الدنيا اهي السباق.

-        آمنة : ببساطة في وايد ما يبون يشتركون بالسباق .. يبون يقعدون بالمدرجات و يتفرجون.

-        ليلى: هذا اختيارهم .. و بناءاً عليه راح يُحاسبون و يُعاقبون

-        آمنة: وصلنا خير .. مريم اختارت .. انتهى الموضوع Full Stop.

-        جنان: لا مريم ما اختارت .. مريم  إنقص عليها.

-        آمنة: جنان لا تضحكيني .. راح زمان يدتي ويدتك .. البنت عمرها يصير 14 و 15 وهي لمّا بعدها تلعب بالرمل وعرايس الصوف، ما تدري شنو الزواج ولا شلون صاير الريّال .. راح زمن البراءة خلاص. مريم عمرها 24 سنة .. مو صغيرة. ما في ريّال يقص على وحدة عمرها 24 سنة في هالزمن.

-        ليلى: أنا مؤمنة ان الريّال لو شنو سوّا .. ما يقدر ياخذ من البنت شيء اهي ما تبي تعطيه!

-        جنان: أنا ما اقول انه قالها تعالي معاي بعطيك حلاوه ولقت نفسها معاه بالفراش .. قص عليها باسم الحب والزواج.

-        آمنة: ليش دايما نفترض ان البنت فريسة والريّال اهو الوحش الضاري؟ البنات في هذا الزمن تعرفوا اكثر على اجسامهم، افهمو رغباتهم واحتياجاتهم الجنسية، واكتشفوا ان مو كل فعل جنسي ومتعة جسدية تؤدي للفضيحة! درسوا الموضوع بذكاء واعرفوا حدود العيب والعار. بالإظافة الى الحلول المتوفرة في الكويت وخارجها لحل المشكلات الطارئة والأخطاء الغير مغفورة.وبعدين في زماننا هذا بعض المرّات البنت اهي الصيّاد والرجل اهو الفريسة. كم قصة ورواية سمعناها عن شباب يوعدون البنات بالزواج، ياخذون إللي يبونه و يختفون؟ مريم كانت دائما ويانا واحنا نناقش هالقصص ونطرح هالمواضيع .. مريم تدري اهي شنو قاعد تسوي.

-        ليلى : مريم حبّت .. حبته من كل قلبها .. إللي يعرفها راح يفهم انها راحت هالطريج لإنها تحبه .. مو لإنها بنت مو زينة.

-        جنان: كلنا حبينا وانحبينا .. بس والله ما سوينا إللي سوته.

-        ليلى: لا عاد مو إللي سوته !!

-        سلمانة : لا مو لي هالدرجة.

نظرت آمنة اليهن و ابتسامة ضارية تنبع من شفتيها:

-        آمنة : عيل لي أي درجة؟؟ منو فيكم ما جربت قبلة الحبيب ؟؟

قفزت جنان رافعة يداها كأنها تتبرأ من تهمة ملصوقة:

-        الحمدالله .. آنا متزوجة

-        آمنة: و قبل الزواج ؟؟

نظرت اليهن جميعا ..



فقد الجميع اهتمامهم بالنقاش .. و بدوا مهتمين جدا بالغداء.


يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 6

$
0
0



بعدان تعدّت العشرين، اكتشفت انها لا تريد شيئا من هذه الدنيا سوى الحرية. كرهت اللحظات التي ترى فيها أخيها الذي يصغرها بسنتين يصفع الباب خلفه ويذهب مع الريح الى حيث يريد. بدون أسئلة تنتظر الأجوبة وبلا رفض او قبول. لازال المجتمع يضع على كاهل الفتاة مسؤولية أنوثتها، لازالوا يحملونها عبء بكارتها و ثقل قدرتها على الإنجاب. لازالت الحياة في هذا المجتمع أصعب على المرأة من على الرجل، و كأن الأحمال التي تقع على عاتقها منذ ولادتها ليست مؤهلة بما فيه الكفاية لتصنع كيانا يدور في دائرته .. ولا يجد نفسه.

كانت تريد ان تذهب لمشاهدة فيلم مع صديقتها في إحدى صالات السينما، رفضت والدتها إلا في حالة ان وافق أخيها ان يذهب معها. رفضت الفكرة و جلست في غرفتها تبكي.

متى بدأت عبودية النساء؟ في أي عصر و في أي تاريخ؟ هي لم تكن ترغب في أن تكون طليقة بلا حدود، كانت تريد الحدود .. و لكنها دائما ما تمنّت ان ترسم بنفسها خطوطها الحمراء و تبني أسوارها بيدها و تحفظ أسرارها داخل عينيها فتعيش الى الأبد راضية عما صنعته يداها.

حدقّت في وجه والدتها أيام طويلة، كانت ترغب في ان ترى فاصل ما، مؤشر صغير يُرجح احد الجوانب عن الأخرى. هل هو خوف، عدم ثقة، ام مفهوم رضعته بنات جيل الأمس مع حليب أمهاتهن؟

قال لها والدها يوما: ( لو ما كنّا ما  ندير بالنا عليكم .. و نمشي وراكم و نراقبكم .. جان رديتولنا بفضيحة و عار ما ينمحي). أخذت الجملة من شفتيه كما هي و كتبتها بكحل أسود على مرايا غرفتها، تقرأها كل صباح عندما تستفيق!

بأي حق تظهر الفضيحة على بطون النساء و تتوارى كليا عن الرجال؟ البطن يكبر وطفل ينموا في الأحشاء بعد ان يتشارك اثنان في صناعة النطفة.ما الحكمة من ظهور الفعل على أجساد النساء واختفائه عن أجسام الرجال؟ وإذا كان اثنان اشتركوا في الجريمة المحرمة .. فمن هو الشريك الأكبر؟

نظرت لنفسها في المرآة ، فيها الكثير من ملامح والدها، أحست بالشفقة عليه، الم يعلّم و يوجه و يربي؟ الم يضع وقتا وجهدا في صنع هذه المرأة المعكوسة على متن المرايا؟ الم يحلم يوما انها ستكبر وتنجح  وتدير بيدها دفة حياتها؟ هل حقا يعتقد انها بلا عقل ولا إرادة؟ هل حقا يعتقد انه اذا تركها تحيى طليقة في الحياة لن تختار إلا الدهاليز المعتمة و الغرف الحمراء؟ هل فعلا يرى انها بلا عيونه.. عمياء! و بلا رقابته .. فتاة بلهاء ! و بلا حصونه تحيطها من كل صوب ستتوه في عالم يضحك عليها الرجال فيه، فيصفع هذا مؤخرتها و يقرص ذاك نهديها؟

تأملت جملة العار المكتوبة، وأقسمت انها لا تريد من هذه الدنيا سوى حريتها. سوى تلك الحرية التي تمكنها من ان تعيش بلا أصوات تخبرها ماذا تفعل، والى اين تذهب. تلك الحرية التي تؤهل كلمة الرفض فيها فتختار هي ان تقولها .. لا يمليها عليها أحد. حرية من النوع العميق يتغلغل في كيانها فتكون هي الصانعة الوحيدة للقرار، لا والديها و لا رجل ما ولا الناس ولا المجتمع يقذف عليها صكوك ما تريد او ما لا تريد!  أقسمت انها لن تتزوج رجلا يقول لإبنته يوما انه اذا تركها ستعود له بفضيحة.

أخذت ورقة من كراسة كبيرة و كتبت:

1-    يحترم المرأة ايمّا كانت، يؤمن بها، يستلذ بعقلها و يقدّر قدرتها على الحمل و الإنجاب.

2-     صديق .. يراني بفرديتي المطلقة، و يحترم خصوصيتي الى الأبد.

3-     نصف بنصف .. ذراع بذراع .. ند لند.

غطّت القلم .. لبست ملابسها، وضعت حجابا زاهيا على رأسها .. أخذت مفاتيحها .. مرت على غرفة والديها فلم تتوقف، فتحت باب المنزل الخارجي و صفعته خلفها، ركبت السيارة و ابتعدت!




***



لم تصدق سلمانة نفسها عندما سمعت صوت عبير موظفة شئون الموظفين في شركة غانم الجاسم العريقة، تخبرها انه قد تمّ قبولها للعمل. نفضت غبار اللا عمل عن قدميها، وركلت كرسي الوزارة الصدأ بعيدا عنها وتوجهت فورا إلى مقر الشركة. مئات الموظفين من مختلف الجنسيات على مكاتب متقاربة. أحسّت بالحماس لأنهم حقا يعملون! لم تر أحدا يمسك مجلة ويقرأ، ولا اثنين يتحدثون في أمور الحياة المختلفة بعيدا عن العمل. ولم تسمع ضحكات الموظفين تتقافز من هواتفهم النقّالة.
أخبرتها عبير أن العمل متعب و لكنه في نفس الوقت ممتع، ستتعلم سلمانة الكثير من الدروس وتكتسب العديد من الخبرات، كما أنها ستقابل عشرات من الشخصيات المهمة في الكويت وخارجها. حيث ان الشركة تحتوي العديد من الشركات الصغيرة تحت مظلتها مما سيمكنها من اختيار مقر العمل والوظيفة التي جاءت من أجلها.
اختارت سلمانة شركة الدعاية والإعلان التابعة للشركة الكبرى، فيها يقوم خبراء الحملات الإعلامية بالترويج لسلع الشركة المختلفة من سيارات وأثاث والكترونيات، بالإضافة الى العمل على مشاريع مختلفة ووجهات خارجية.
عادة ما يكون اليوم الأول مليء بشيء من رائحة الغربة، سلمانة تكره الوحدة و اليوم الأول من كل مرحلة انتقالية في حياتها كان مشوبا بصبغة الفتاة الجديدة التي لا يعرفها أحد. كانت عادة ما تتثاقل اليوم وتتمنى ان ينجلي بأسرع وقت ممكن. تكره عندما تحتار أي ابتسامة ترتدي في لحظات التعارف الأولى، وتكره الانطباعات المبدئية. ودّت دائما لو تختصر المسافة فتقفز لتلك الفترة التي تعرف فيها الجميع وتستمتع بصحبتهم.
اغلب الموظفين في هذا القسم من الشركة كانوا من الوافدين، فالعمل مجهد وساعات الدوام طويلة، صباحا من الثامنة و مساءا حتى الخامسة وساعة في منصف اليوم للراحة و الغداء.
مر اليوم طويلا فارغا إلا من تعارف على الزملاء وتعارف أولّي بينها وبين مقتصيات العمل، أحبّت البوادر وتحمست للانغماس في يوم شاق ومليء بالتحديات. كانت تتطلع لأن تكون مشغولة بما فيه الكفاية فيتضخم عقلها وتكتسب مهارات بلا حدود. رجعت الى المنزل بعينين براقتين، كان لديها الكثير لتقوله لوالدتها، دخلت المنزل فوجدته نائما بلا حراك. اكتشفت أول تضحيات الطموح الجديد، ستعود هي كل يوم لتجد والديها نائمين وأختها قي غرفتها تحل فروضها الدراسية، و أخويها كل في رقعته من هذه الأرض الواسعة. لن تجد سفرة الغداء بالانتظار ولن تكون جزءا من اللمّة اللذيذة على مائدة الطعام.
دارت عيناها في الصالة الكبيرة وقالت لا يهم، صعدت السلم للطابق الثاني متوجهة الى غرفتها، دخلت والقت نفسها على الفراش، كان قلبها ينبض بالحياة، و شفتاها مبتسمتان لخطوتها الجديدة. دخلت والدتها بابتسامة حزينة، تبذل ما بوسعها لتقنع نفسها انها ستساند قرار ابنتها:
-        شلون الدوام الجديد؟
-        Oh my god  يمّا .. وايد حلو .. فيه شغل .. الناس قاعدين يشتغلون، التلفونات ترن والمدير ينادي
 و الموظفين على مكاتبهم يشتغلون!
-        و الله ما ادري؟!
-        ما تدرين عن شنو ؟؟
-        منو يبي وحده ترجع البيت الساعة خمس؟
باستهزاء
-        أنا أبي وحده ترجع البيت الساعة ست بعد.
-        ترى ماراح تلقين أحد يتزوجج!
-        يمّا .. أنا ما ابي اتزوج واحد يبي يتزوج وحده ترجع البيت الساعة 12 الظهر!!
-        ترى ماكو رياييل يرضون .. راح ايون البيت .. يشوفونج و تعجبينهم .. بس من أول ما يدرون ان هذا شغلج و هذا دوامج .. راح يروحون و ما يردّون!
-        و ليش ايون من اصله .. إللي يبي وحدة ترجع البيت الساعة وحدة وإلا 12 .. يروح أي مدرسة بفريجهم او وزارة يطب و يتخيّر. وإللي يبي وحدة طموحة وشغيله وعنها تطلعات يروح أي شركة في الكويت ويطب ويتخيّر. وبعدين جم مرّه اقول لج لا تحاتين .. آنا بأيبلج الريل من ايده لي عندج يخطبني .. أنا راح اختاره و اتفق معاه و اييبه . و انت بس باركي و فرحي.
تطلق زفرة حارة:
-        انشاء الله
تصمت
-        بس ترى ابوج مو عاجبه دوامج!
-        وليييييه .. ليش بعد؟
-        يقول البنت السنعة ما تقعد برّه البيت لي آخر الليل!!
-        لي آخر الليل ؟؟ أي ليل والساعة ما صارت 5:30 .. عيل لمّا اهو يرجع من الدوانية الساعة 2 والا 3 الفجر .. هذا شنو ؟؟ القايلة ؟؟ "تضحك "
-        و انت بتحطين راسك براس ابوج ؟؟
-        و الله يا يمّا لو بحط راسي براس ابوي كان من زمان مقصوص راسي ومعلق بساحة الصفاة. أنا بس أبي شوية دعم وتشجيع. مو حرام ولا عيب البنت تشتغل بوظيفة تنمي عقلها وتزيد خبراتها. أنا دخلت الجامعة مو عشان احط شهادتي تحتي واقعد عليها .. أنا درست و تعبت عشان اشتغل واكبر وانجح وما تدرين .. يمكن يوم من الأيام اطلع من هالشركة وافتح لي شركتي الخاصة.
زفرة:
-        لا بالله ما شفنا الريل .. أنا ليش ربي ما عطاني بنية قنوعة .. تسمع الكلام!! و الله كنت ادعي ليل ونهار ان يرزقني بنت تقعد تحت رويلاتي وتنطر نصيبها.
بابتسامة:
-        راح اقعد تحت رويلاتج بعد الساعة 5:30 "تضحك "
-        و الله أنا مالي شغل اذا ابوج كلمك .. و عصّب عليج !! ترى كلّش مو عاجبه الموضوع.
تخرج من الغرفة و هي لا تزال تدمدم .. تلقي سلمانة رأسها على الوسادة .. مبتسمة.



يتبع ...


( سلمــــــــــــــــانة ) 7

$
0
0


لاتدري لم هي الآن تحب هذا المكان، ربما لأنها أخيرا باتت ترى الوجوه التي تحمل ملامح الوطن! اللون الذي تركته يأفل من ذاكرتها. الابتسامة ذات الإشراقة العربية التي لم تر نورها منذ سنين. اللغة التي تحاكيها دون أن تتكلم، تذكرها بتاريخها، بمجريات حياتها .. بكل الحوارات التي أحبتها. كيف كبرت، ماذا قالت وماذا  قيل لها.

 أحسّت بالجوع يتسرّب الى معدتها، أخذت ما يهمُهّا وتوجهّت الى احد المطاعم الممتدة على احد ضفتي المطار الأنيق، قررت ماذا ستأكل وجلست تنتظر. تذكرت عندما كانت تجلس في أحد المطاعم المتوارية تنتظره، وتذكرت عندما قال لها ذات يوم بعيد:

-        عندما أتأخر لا تنتظري .. ابدئي في الأكل .. أنا لا أمانع!

توقفت عن كل شيء و نظرت طويلا إليه وهو يأكل طبق السلطة الذي وضع أمامه!

لماذا لا يفهم الرجال ابسط قوانين النساء؟ لماذا يجدون تلك الصعوبة البالغة في ان يعطوا امرأة تهمهم الأشياء التي تريد والمشاعر التي تتمنى؟ غريب أن يولد الرجال من كل انحاء العالم بمفهوم معوّق لمعنى الرجولة، يعتقدون انه كلما كان الرجل خشنا جافا مع امرأته .. كلما أحسّت بأنوثتها أكثر وكلمّا تأكد هو من انه رجل لا يقهر! لن تذلّه امرأة طالما كان مسيطرا على مشاعره اتجاهها! كثيرا ما تساءلت .. من اخترع هذا المفهوم؟؟ و من أوّل رجل صدقّه؟ ردّت:

-        لا يهمني الأكل .. تهمني الصحبة.

-        حقا؟

نظرت بعينيه:

-        أجل

يبتسم:

-        قلت لي مرّه انك تكرهين من يتأخر عن الموعد، وأنك لا تنتظرين قريباتك عندما تخرجن معا للغداء. من يتأخر يأكل وحيدا في النهاية بينما انتم تستمتعون بأطباق التحلية!

تخجل:

-        تذكر؟

-        طبعا .. اذكر كل ما تقولين!

-        لماذا؟

-        لماذا ماذا ؟

-        لماذا تذكر كل ما أقول وأحيانا لا تتذكر ماذا فعلت بأمسك؟

-        لا يهمني القول .. يهمني القائل!

    خجلت و ابتسمت:

-        بالضبط.

كانا هكذا يفهمان بعضهما، كانا يتحدثان معا قليلا ويصمتان كثيرا، جل ما بينهما لا يحتاج الى الكثير من الشرح والتفسير. كانا يجلسان على شاطئ البحر بلا حديث وعندما يتوادعان يحسّ كل واحد منهما انه فرغ من الكلام. مجرد المعيّة كانت منتهى الطموح. كانت بالفطرة تحبه. لم تقل له يوما "احبك "ولكنه كان يعلم وهي بالمقابل كانت تعرف انه .. يحبها. مشغول هو بمعترك الحياة وحروب إثبات الذات في موطن الـ "ينتمي"او لا "ينتمي"، و مشغولة هي بحروب من نوع آخر. لكنهما دائما ما يجدون وقتا عميقا لبعضهما .. يكونان معا .. و الباقي لا يهم!


قطع حنينها حديث شابين يجلسان في الطاولة المجاورة، كويتي عرفته من لونه، ولبناني عرفته من لسانه.

قفز الكويتي من كرسيه عندما دخل فوج القادمين من السفر، قفز واقفا ينتظر الى ان بانت فتاة هناك، تخطوا بخطوات متناسقة على أنغام حذاء زاهي عالي، حقيبة فارهة وملابس باهظة الثمن. كانت الفتاة تتأبط ذراع والدها بدلال، تتقافز نظراتها بحرص الى أركان القاعة وزوايا المطار الى ان التقته. التقت نظراتهما، تعانقت عينيهما فأطلقت ابتسامة تكاد لا ترى، وهو واقف هناك بحيرة بدت على محياه، يبتسم او لا يبتسم .. يلوّح من بعيد ام يغمس يده بجيبه لكي لا تفضحه لهفته عليها. سلّم والدها الحقائب للسائق الهندي الذي وقف بالانتظار ومشى مسرعا الى خارج المطار وهي تبطئ خطواتها لعلها تقتنص عينيه من جديد. التفت والدها وراءه .. انتظرها لتصل إليه .. مسك يدها بحنان و خرج من بوابة المطار.

-        اللبناني: وبعدين ؟؟

-        الكويتي: ولا قبلين!

-        اللبناني: لمَ لم تسلم عليها؟

-        الكويتي: لا استطيع.

-        اللبناني: لماذا؟

-        الكويتي: هذي الكويت صل على النبي ..

-        اللبناني: ما فهمت!

-        الكويتي: ما اقدر اسلم عليها وابوها معاها!!

-        هي مش تأربلك ؟

-        إي .. بس من بعيد

-        ايه ؟

-        انا ما اقدر اروح اسلم عليها جدام ابوها ..

-        لكان تأدر من ورا ابوها يعني؟؟

-        يعني

-        دخلك .. فسرللي شو صار هون! هي بتحبك و انت بتحبا .. و تأربلك و انت بتأربلا .. بس ما بتأدر تسلم عليها منشان ابوها معها .. بس تأدر تجيبا معك للغدا لبيت ماريان؟!

-        انا احبها و ابيها و احنا متفقين ان نتزوج انشاء الله في يوم من الايام .. العلاقات قبل الزواج في مجتمعنا  شوية عليها تحفظ حتى لو كانت بمنتهى البراءة. اذا ابوها عرف اني احبها وابيها وقاعد اكلمها بالتلفون ونطلع مع بعض عمره ما راح يرضى يزوجنا. عشان جذيه كل طلعاتنا بالسر. آخذها و نروح السينما، آخذها غدا في بيت مريان لإنها تدري انها مديرتي بالعمل ومسوية عزيمة حق كل الموظفين. اشوفها بالشهر مرّة .. مرتين .. لين الله يفرجها ونتزوج.

-        بس ليش كل هيدا؟ ليش ما بيكون كل شي بالنور؟

-        هذي عاداتنا وتقاليدنا

-        و انت راضي ؟؟

-        انا عندي الوضع ما فيه شيء .. بالعكس .. جذيه احنا قاعد نحافظ على بناتنا، والبنت الزينة تعرفها من تصرفاتها واذا كانت فعلا تسمع كلام اهلها وإلا لا! اذا كانت البنت فلتانة وين ما تبي تروح و ترد لا حسيب ولا رقيب .. لا أم تسأل و لا ابو يدري .. هذي إللي لا يحوشك. ما تدري اذا كلمت واحد من قبلك اكيد بتكلم واحد واهي معاك .. هذي إللي لا تقرّب منها.

-        بس نورة مش عم تسمع كلام اهلا .. هي عم تشوفك من ورا ظهر بيّا! عم تخدعه يعني!

-        ايه .. بس نورة عمرها ما كلمت ولا حبت قبلي .. انا الأول في حياتها وهي تبيني وتحبني عشان جذيه تطلع معاي. بعدين تدري إني اصير لها و احترم عايلتها عشان جذيه اهي واثقة ان عمري ما راح اضرها ولا اضر سمعتها.

-        يعني لمّا تعمل هيك معك ملاك! و لمّا تعمل نفس الشي مع غيرك .. شيطان!!

-        نورة عمرها ما راح تكون مع واحد غيري

-        و شو بيضمن لك انها ما كانت مع واحد قبلك؟

-        اقول لك تصيرلي .. اعرفها من صغرها!

-        اذا عم بتكدب على اهلا وتظهر معك .. ممكن انها عم تكدب عليك و تظهر مع واحد غيرك !

-        انت ليش قاعد تتكلم عنها جذيه؟ انت سامع شي من وراي؟

يضحك:

-        لا و الله يا خيّي ما سمعت .. انا ما شفت نورة إلا مرتين .. في بيت ماريان وهون .. كيف بدّي اسمع عنها شي؟

-        أنا الغلطان إللي يبتك معاي .. قلت لبناني ما عنده سوالف الشباب البايخة .. منو هذي؟ و وين تعرفعا؟ و كم صارلكم؟ و كأني شايفها مع واحد من الربع!! طلعت اسوء منهم!

-        يا خيّي انت شو insecure  !!

-        شنو يعني؟

-        انت شو بدّك من هالبنت؟ حب وزواج وحياة ما هيك؟؟ يضرب ماضيها لو شو ما كان! يضربوا كل إللي عم بيتكلموا عليها لو شو ما قالوا !! يضرب هالمجتمع إللي بيقيس مستوى البنت بكم واحد عرفت ومع مين كانت !! لو بحب بنت وأنا واثق انها بتحبني ما بيهمني شو عملت قبلي.

-        شلون يعني ؟ ما يهمك ان كانت عذراء وإلا لا؟

يضحك اللبناني عاليا:

-        شو هو انتَ عذراء ؟؟

-        لا .. بس انا ريّال !!

-        ريّال؟؟ و دخلك شو الفرق يا ريّال ؟؟ انو ما عندك دليل يثبت انك مش عذراء وهي عندا؟ دخلك وهدول إللي بيعملوا ترقيع كل 6 شهور؟؟

-        تبيّن البنت المجربه .. الريال الخبرة راح يعرف من تصرفاتها.

-        و اذا كانت احسن ممثلة بالدنيا ؟؟

-        الخبير راح يلاحظ ويعرف !!

-       وليش انت مسموح لك تكون خبير وهي مش مسموح لها تكون خبيرة !!خبير هبل هيدا اللي تارك اجمل متعة بالحياة وعم يركز على كيف عم تتصرف وهي عذرا او مش عذرا! ياما بنات عمرون ما جربوا ولا حدا لمسهون وبتكون عذريتهم مختفية من راسون من زمان .. العذرية يا عزيز هون ( مشيرا الى رأسه ) مش هون ( مشيرا الى بين فخذيه).

-        غسّان انتو مجتمعكم غير واحنا مجتمعنا غير .. عمرك ما راح تفهمني

-        و انت عمرك ما راح تفهم الحب.

ينهضان .. ترفع رأسها وتنظر اليهم الى حيث يذهبون، ينتبه الكويتي الى وجودها فيلتفت وينظر اليها بطرف عينيه. لازالت تتابعهم، يتقدم اللبناني ليمر من بين الكراسي، يصطدم بحقيبتها الملقاة على الأرض بجانبها. ينظر اليها مبتسما:

-        آسف

تبتسم له:

-        شكرا

-        على شو؟

-        على كل شيء !

-        يقطّب جبينه .. و يبتسم .. و يضمحل   



يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 8

$
0
0

لمتكن تعلم سلمانة انها ستنهمك بكل مجريات عملها الجديد بهذه السرعة، أخذت تتعرف أكثر على زملائها وزميلاتها بالشركة، وأخذت تشعر يوما بعد يوم انها نزلت عن كينونتها الكويتية الخاصة واستساغت المعرفة الجديدة مع الجنسيات الجديدة. الكويتيون دائما يشعرون انهم مختلفين عن الجنسيات العربية الأخرى. ربما هي صدفتهم العجيبة بالحياة التي جعلت لهم وطنا مستقرا يرقد على بحور من البترول، فكلما يعلوا سعر البرميل تعلوا في عقولهم فكرة انهم الأفضل.

سلمانة وجدت بعض الصعوبة في البداية من التأقلم مع الطاقم الغير كويتي! فهي الوحيدة هناك التي لا تعلك الكلمات ولا تمط الحروف ضمن حوار لا نهاية له. ولكن مع مرور الوقت عرفت مميزات جديدة للجنسيات العربية خارج نطاق الخليج غير اللسان الطلق والمجاملات المحبوكة.

من الممكن ان يكونوا حقا أصدقاء، الرجل فيهم لا يملك تلك النظرة الغريبة للمرأة بجانبه، ولا يعتقد انها تريد شيئا خفيا منه عندما تمد له يدا مصافحة. تعوّدوا على الصداقات والعلاقات الإنسانية غير المشوبة بأي تلميحات من أي نوع. المرأة صديقتهم اذا قررت ان تكون وعادة ما تنتهي الجملة.

أحبّت المجتمع الجديد الذي يمثل طابعا مختلفا من التعامل، فهي لا تخشى أن تقرأ عفويتها بطريقة خاطئة ولا ان تُفسر ابتسامتها بمأرب خفي. لم تعد تخشى من ان يتناقل اسمها على لسان الشباب في الديوانيات الليلية، و لا ان يقال عنها ما يقال في محافل قد خلقها الرجال لاجترار سيرة من يشتهونومن يكرهون من النساء.

في مكتبها كانوا يجتمعون صباحا يتجاذبون أطراف حديث مختلف، بدايات حكاية ستأتي او نهايات قصة لم يكملوها يوم أمس، عن أرض غير أرضها وذكريات لأناس لم تعشهم و لم تراهم من قبل، عن طفولة في ربوع غريبة عنها وتقاليد لم تنشأ معها.  أحبت الزمالة اللطيفة ما ان انقشع ضباب الطبقات ووهم الجنسيات وبدت متفتحة أكثر للإعجاب بحياة الشعوب الأخرى. كانت تسأل كثيرا لتفهم أكثر، لم تحض يوما بفرصة مثل هذه للالتصاق الإنساني بأمم عاشت وفق تاريخ آخر وخلفيات معيشية بعيدة.

 دُهشت عندما لمست حمما من براكين الطموح تقذف من عيونهم، هم يرغبون في ان يكونوا مختلفين من سابقيهم، ان يفخر فيهم آباءهم و أمهاتهم الذين ارتضوا العيش في المدينة المشردّة و لم يفكروا يوما ما الذي يقبع خارج الصندوق. لا يهم ان كانت وطنيّة ام خوف من المجهول، ما يهم ان نحقق شيئا واحدا مما خلقنا وعشنا لأجله.

في بلاد التين والأرز والزيتون يكبر النشئ على أحلام كبيرة مثل الأمن والسلام والعروبة والقومية والاستقرار، وما ان يتعدى الطفل منهم مرحلة بابا نويل و جنية الأسنان، حتى يأتي غول الحقيقة يلاحقه في المنام ويعضّ مؤخرته، فيشب وهو يحتلم ألم واقعه الدامي و ينزف قيحا رماديا على وطن يحتضر، لا مَنيّ ابيض على خيال شغوف لامرأة شهية.

وجدتهم مفعمين بالنور والحب والأمل رغم تاريخهم الدامي ومستقبلهم الركيك، ووجدت نفسها ومن مثلها مثقلين بهموم من نوع آخر وجمود ابدي لا يحركهم ولا يتحرك معهم. هم يناضلون من اجل التغيير، من اجل حياة أفضل ومستقبل أفضل، يخوضون في غمار الحياة ويتوجهون الى أين تشرق الشمس ليجدوا الحلم الذي ضاع والمستقبل الذي انصهر مع هويتهم المسلوبة. تساءلت و هي تستمع لقصص الرحيل والبعد والغربة، أين نحن منهم؟ أين نحن من الأوطان التي تسكن أبناءها؟ ومن الأحزان التي تنشأ بلدا حلما داخل صدورهم؟ أين نحن من بلادنا؟ ولماذا اعتراها السوس حتى نخرت أساساتها وأصبح الكل يعلك ذكريات زماناتها ويتحسر على وقت ما كانت فيه دُرّة الخليج ودانة الشرق الأوسط!

تساءلت .. أين نحن من الرحيل و أين الرحيل منّا!


***


كم كانت تحب السفر عندما كانت صغيرة، كان السفر في قاموسها الإبتدائي الذي يضم عامودين من الكلمات – كلمات السعادة وكلمات الحزن – من أوائل كلمات السعادة. كانت لا تنام عندما تعلم انها ستسافر يوم غد. وتجهز احلى فستان لديها والطف حذاء في خزانتها لترتديهم وهي تعبر بوابات المطار. كانت الطائرة قصرا واسعا من ألعاب وتطلعات منتظرة الى ما سوف يأتي. تعد عينيها انها ستشاهد الكثير وستسمع لهجات ولغات لم تسمعها من قبل. لم يكن السفر في ذلك الوقت كلمة سوداء، و لم تكن الغربة سيلا اسودا من محيطات الفراق.
هي والطائرة والحاجيات اصبحوا لا يفترقون، تسحبهم ويسحبونها الى رحلات لا تنتهي وجولات لا تتوقف، لا تعلم ان كانت لا تزال تحب السفر .. و لكنه حتما اصبح جزءا كبيرا من مسيرة حياتها و صفة ملتصقة بشخصيتها.
في بضع السنين الماضية زارت مطارات لا حصر لها، ورأت سحنات البشر من البلاد البعيدة فالتقطت ملامحها خليّة من كل صوب. مع مرور الزمن بدأت تحس ان وجهها اصبح خليطا من كل بلد زارته ولونها مزيجا من الوان الإنسان اينما كان. ربما كان ولازال هذا السبب الذي يدفع الناس للإبتسام دوما في وجهها، ربما شيئا ما يضحكهم او قصة قرأوها على جبينها دفعتهم لإرسال بسمة اعتراف بوجودها.
نظرت حولها واذا بإمرأة تقتنص عيناها، نظرت داخلهم وابتسمت هي الأخرى لشيء مجهول، لدعوة عامة كتبت على جبينها تدفع الناس ربما للتساؤل او حتى للتحية، اقتربت المرأة اكثر وابتسمت أوسع و قالت:
-        السلام عليكم
انصتت الى صوت المرأة طويلا، انصتت للتحية التي لم تسمعها منذ دهور. عندما كانت هنا لم تستوعب يوما كم جميل ان يحيينا الآخرون بأمنية .. وأي امنية؟ أمنية السلام!
كم تحتاج خلجاتها للكثير من السلام. كم تفتقد نفسها احساسا بالسلام وكم أرادت طويلا لو ينزل عليها وابلا من سلام فتعيش .. و ترتاح.
ظلت صامتة تغرس عينيها بعيني المرأة الغريبة التي جاءت لها بالسلام .. لم تجب .. فقط أرادت ان تعيد الغريبة تمنياتها لها بالسلام. قطبّت المرأة جبينها واعادت التحية بصوت اعلى:
-        السلام عليكم ..
-        و عليكم السلام
بعد تردد:
-        و رحمة الله و بركاته ..
-        بس كنت ابي اسئلج حبيبتي .. ممكن استخدم تلفونج؟ جهازي مافيه شحن، أبـي أدّق على ولدي المفروض يلاقيني هني بس ما ادري وينه ؟؟ ما اشوفه !! (( تلتفت عن يمينها و شمالها )).
-        اهو ياي من السفر ؟
-        لا وييييييييه الشر بره وبعيد، بيلاقيني هني .. عندنا جلسة بحث وتحرّي (( تضحك )).
تناولها هاتفها ..
-        هاو! شنو هذا .. هذا من وين؟؟ ما اعتقد تلفونج يشتغل عندنا! (( تقلب الهاتف في يدها )) انتي من وين؟
تبتسم:
-        من كل مكان ومن أي مكان !
تضحك المرأة عاليا:
-        بنت بطوطة؟
-        تقدرين تقولين جذي
-        الوجه مالنا والكلام مثلنا .. بس تلفونج عمرنا ما شفناه هني!! مو شاريته من هني ؟؟ شلون ما شفناه واحنا عندنا كل تليفونات العالم ؟؟
ابتعدت المرأة قليلا تحادث ابنها .. وهي لحقتها بعينيها، أي هوية تلك التي تحدد ببلد مصنع مقتنياتنا! واذا اعتبرناه معيارا جديدا لكينونتنا .. كم من الأشياء التي نملك قد كتب عليها "صنع في الكويت" ! تقدمت المرأة نحوها من جديد وهي تضغط كل الأزرار على وجه هاتفها .. يأست و ناولتها الهاتف:
-        ويه .. والله ما ادري شلون اصكه ؟؟ وايد معقد!
تبتسم .. و لا ترد
-        ولدي اخترع لمّا شاف رقم التلفون إللي اتصلت عليه منّه .. قال لي يمّا انتي وينج .. باليابان!
تضحك ولا ترد..
تجلس المرأة على المقعد بجانبها:
-        والله هالولد كلّه متأخر .. الحين البنات بيوصلون واهو لمّا الحين ما وصل عشان يشوفهم !
تنظر اليها ولا ترد
-        كبر ولدي و مشى فيه العمر .. نبي نخطبله بنية حلوة وبنت ناس .. ولدي جراح درس بكندا، و صار لنا اكثر من تسع سنين واحنا ندورله على وحدة حلوة تدخل مزاجه .. بس ماكو فايدة. والله شاف بنات الكويت كلهم، وتدرين ماشاء الله بناتنا كل وحدة تقول الزين عندي. بس ولا وحدة اعجبته .. لا والله يعجبونه بس يقول لمّا الحين ما لقى إللي يبيها. على قولته الجمال إللي ما ينمل منّه. عيزت وانا اقول له ان حتى لو تزوّج اجمل وحدة بالعالم بيصحى يوم و يشوفها عادية .. لإن خلاص تعوّد عليها !! بس لا حياة لمن تنادي.
تنظر الى الأرض و لا ترد
-        يبي وحدة يتفاخر فيها جدّام ربعه .. يبي وحدة ما يختلف على جمالها اثنين.
فرّت ضحكة من فمها و لم ترد
-        إي و الله شي يضحك .. بس شسوي .. ولدي ناجح ومتعلم ووظيفته ممتازة ومعاشه قوي .. يبي وحدة تملا البروفايل على قولته. بنت ناس معروفين ومن عايله زينة، يبيها جامعية ولبيسّة وكشّيخة وستايل ومو متزوجة من قبل. ما عندج – يمّا – وحدة من صديقاتج بهالمواصفات؟؟
-        اهو كم عمره؟
-        خمسة و اربعين
لم تتمالك نفسها .. ضحكت والتفتت بعيدا على الصوت المنادي، واذا به الجرّاح يعدوا ليصل. لم تصدق انه ترك ما كان بيديه وأتى لينتظر طائرة ستوصل عائلة ما لأختين قد وصفوا جمالهن لأمه. لم تصدق انه اتى ليقتنص لمحات من فتيات لا يعرف عنهن سوى انهن غاية في الجمال. واذا كان الوصف غير صحيح .. من سيعزي المرضى!
 وصل فنهضت الأم وأوقفته بجانبها، سلمت عليه ووقفت شامخة بجانبه .. التفتت اليها من جديد وقالت:
-        هذا حمد .. إللي كلمتج عنه.
ابتسم بتحفظ و بصوت متواطئ مع الكثير من الكبرياء قال:
-        اهلا وسهلا
أومأت برأسها و لم ترد
-        مشكورة على التلفون ..
ردّت بلطف ممزوجا بشيء من السخرية:
-        العفو يا دكتور .. زوجك واجب قومي لكل من استطاع المساعدة.
   ضحك:
-        أمي ما بقى أحد إلا وافضحتني عنده .. كل البنات اعرفوني والسبّة أمي .. تمشي و تتكلم.
-        صدقني كل البنات يعرفونك لإنهم كلهم قاعد يدورولك على عروس المستقبل .. كلهم فقدوا الأمل بانهم يكونون سعيدة الحظ مرت الجرّاح.
يبتسم بتحفظ مع قليل من الإحراج:
-        والله انفضحنا.
تجره والدته الى أسوار المكان المخصص لانتظار الواصلين، تدفعه أمامها وتخبره ان القادمين بدؤوا بالخروج من مقر الجمارك .. يبتعدان و هي تسمع الأم توصيه.
-        افتح عيونك زين و لا تقولي انك ما شفتهم عدل! قالت لي خالتك فريدة ان وحدة راح تكون لابسة بنفسجي والثانية اصفر فاتح. عاد يالله يا وليدي .. الله يخليك و يهديك و يمسح برحمته على قليبك .. انت بس قول إي و من باجر ندق نخطب. أم البنفسجي خريجة علوم إدارية و أم الأصفر ....
اختفيا بالزحام واختفى صوت الأم، و لكنها تعلم ان "امرأة السلام"لازالت في دوّامة من الدعاية والتسويق لسلعٍ معروضة على رفوف "نص الدين"و"سُنّة الحياة" .. لزبائن في غاية الصعوبة وغاية في التعقيد، لا ترضيهم إلا العلبالمتكلفةالسحرية و المزركشة.

يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 9

$
0
0





عندمارأته سلمانة لأول مرّة كانت لا تعلم انه سيصبح جزءا كبيرا من تاريخ انتفاضتها، لم تؤمن يوما بجدوى التعارف الأسري وسط منظومة "القعدة"ثم "الخطبة "فـ "الملكة"و الزواج. كانت دائما تسأل صديقاتها ممن سبقوها بالتجربة .. كيف ينشأ الحب؟ و متى تبدأ الألفة بين قلبين لم يقضوا وقتا كافيا ليعرفوا ولو ابسط الأشياء عن شريك الحياة ! كانت دائما تسأل – وفقا للأعراف و الزواج التقليدي - متى يبدأ النصف الأول في حب النصف الثاني؟

قال لها: من أنت؟

قالت: صندوق

قال: أي نوع من الصناديق؟

قالت: صندوق مبيّت

قال: ماذا بداخله؟

قالت: دمية صغيرة ترتدي دراعة وبخنق طويل

قال: ماذا تفعل الدمية؟

قالت: ترقص

قال: لماذا ترقص؟

قالت: لأنها تحب الرقص

قال: لماذا تحبه؟

قالت: لإنها امرأة

قال: ولماذا ترقص في صندوق؟

قالت: لإنها لا تستطيع الرقص .. إلا في صندوق!

قال: غريبة !

قالت: أنا صندوق مبيت مثل صناديق اوروبا الخشبية التي ما ان تفتحها حتى تجد دمية صغيرة لراقصة بالي تدور على موسيقى هادئة .. أنا النسخة الخليجية من ذلك الصندوق.

ضحك و قال: على اي نغمة ترقص دمية البخنق؟

همهمت اللحن وارهف اذنيه يستمع

قال: ما هذا؟

غنّت: قلت اوقفيلي وارفعي البوشية .. خليني أروي ظامري العطشاني ..

قال: لا افهم .. But it sounds so sexy !!


***

إتصال هاتفي في ساعة متأخرة من الليل، نظرت سلمانة الى هاتفها النقال على طاولة السرير وإذا بالساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل. المتصلة كانت "هديل"والأمر لابد ان يكون بمنتهى الأهمية لإن هديل عادة لا تتصل بهذه الساعة! فتحت الخط وإذا بهديل تنتحب!
سألتها سلمانة مرارا ماذا حدث؟ وهديل تبكي بلا سيطرة. لا تكاد تقوى على الكلام وكأن الحروف قد غرقت في شلال جزع. تمالكت هديل نفسها بعد دقائق.
كان الإتصال عبارة عن طلب نجدة، فزعة الصديقات اللاتي تناقشن بالموضوع من قبل ولم يخرجن بنتيجة تدفعهن للتدخل في شأن خاص وشائك من منهج انوثة امرأة. ألحت تلك الحاجة الماسة للحب والدفئ الى خلق فتاة تحمل على جبينها وصمة عار لا يراها إلا من يعرفها. خفن الفتيات من المفاتحة! خفن مما سيسمعن منها أكثر مما كانت هي ستسمع منهن، والأهم من كل هذا أنهن خفن من ان يراهم الناس مع الفتاة الموصومة بعلاقة مشبوهة فتدنسهم الشبهة وتطالهم الوصمة.
فهمت سلمانة ان مريم بالمستشفى، لقد تلقت ضربا مبرحا وتشويه واضح لوجهها وأجزاء كبيرة من جسدها من قبل اثنين من اشقائها الذين علموا بوجودها في شقّة مع "محمد"صديقها. يقولون ان احد الأخوه طعنها بأداة حادّة قد اخترقت واحدة من رأتيها وهي الآن بحالة حرجة. علمت سلمانة ايضا ان لا أحد من عائلتها معها في المستشفى، رفضت والدتها البقاء معها وتركتها شبة جثة لفتاة استبقت المشروع والمقبول بإسم الحب الذي ينتظر النهاية المتوقعة لمستقبل رائع و نهاية مشروعة.
بكت الفتاتين كلٌ على جانب بعيد من سماعة الهاتف، ولامت كل واحدة نفسها لإنها تركت مركب العلاقة يبحر في مستنقع من عادات مذمومة لا تُمارس ولا تُقبل في مجتمعاتنا.
في الصباح عرجت جنان بسيارتها على هديل، ثم على آمنة، فسلمانة التي دخلت السيارة وهي ترتدي وجها لا يتماشى مع المناسبة! كانت الوجوه واجمة داخل الصندوق الحديدي، ارتدت الفتيات لباسا غامقا يشير الى حزن حقيقي قد استقر في النفوس التي باتت ليلتها مع عذاب الضمير. على خلافهن، دخلت سلمانة السيارة بابتسامة وقميص برتقالي. كانت تحمل في يدها باقة من الزهور الصفراء ومجموعة من الكتب الصغيرة التي ستهديها لمريم. تلاقت العيون بالوجوه وسألت سلمانة عن ليلى!
أخبرتها جنان ان ليلى لم ترغب بزيارة مريم لإنها لن تقو على رؤيتها بهذه الحال! وجمت نظرة بمغزى على الوجوه .. كلهم يعلمون أن ليلى لن تزور المفضوحة خوفا من أن تتعفر ذمتها بغبار الفضيحة، ولن تزور الموصومة تجنبا لرائحة دخان العار!  
ما إن دخلت الفتيات لغرفة الجريحة حتى عم الهلع ارجاء المكان، الكيان المتدلي على السرير لم يشبه ملامح المرأة التي كانت يوما تسكنه. كانت مريم ملفوفة بالقطن والشاش، عيناها مغمضتين قسرا وكأن الأطباء رغبوا في ان لا تفتح عينيها على غرفة خاوية من اي اهتمام. انزلقت عشرات الدموع على مشهد الحب الذي تجسد عقابا متعدد الأنواع. قالت منال اخت مريم التي جاءت خلسة بغير علم أشقائها أن جروح مريم عميقة وقوية وكأن المعتدين قد درسوا مواقع الثأر. جروح الوجه جاءت لتطمس ملامح الجمال في وجه اختها. كمّا تم تركيز اللكمات على ظهرها تمنيا ان لا تمشي بعد اليوم، والطعنة التي جاءت ببطنها كان المقصود بها اتلاف الرحم!
 ترجمت منال أسى علاقة اشقائها بها وبمريم، فمنذ عرفت الفتيات معنى الدنيا وهن يقبعن تحت سلطة واضحة لأخوتهن الأولاد الثلاثة، فلا يتحركن ولا يتخذن اي طريق او قرار في حياتهن إلا بعد أخذ موافقة الذكور بالإجماع! بكت منال وهي تمسك يد اختها الغائبة وقبلتها، نظرت الى سلمانة التي كانت الأقرب الى مريم وأخبرتهم انها يجب ان تغادر خوفا من ان تعلم اسرتها بمجيئها. شكرتهم على المجيئ واستحلفتهم ان يعاودو الزيارة.
غادرت منال، الجزء الآخر من مأساة اختين تقاسمتا سوء الحظ من بداية التكوين، ربما كانت الجزء الذي لازال يملك وجها جميلا ورحم قادر على الإنجاب، ولكنها حتما كانت ولازالت الجزء الذي وقف شاهدا حزينا على انهيار نصف كرامته ونصف مستقبله الجميل.
في طريق العودة تناقشت آمنة وهديل ما ان كانت قصة مريم يجب ان تروى عبرة لمن لا يعتبر، فأنهت سلمانة الحوار عندما قالت: منذ متى تركت امرأة رجلا أحبته قد وعدها بالزواج خوفا من احتمالية وقوعها بخطر الفضيحة!
منذ أجيال وأجيال ونحن نسمع عن فتيات بعمرنا وأصغر منّا يحرمن من الدراسة، يحبسن بالمنازل، ويزوجن رغما عنهن بحجّة الحب الذي خرج عن النسق المألوف. تلك العاطفة التي تكسر قيود الأعراف والعادات والتقاليد وتخرج من صومعة حب العيون الصامت والقلوب التي تنبض بهدوء ما ان يمر الحبيبان بجانب بعضهما. حب الفرجان القديمة ذاك التي كانت تمارس فيه "بدرية"و"نورية"و"حصة"و"سبيكة"حقها المكتسب بمرأى الحبيب من شباك عال، قد تشققت اطرافه واصبح ذكرى جميلة تقصها جداتنا علينا علنّا نسلك نفس الطريق ونكتفي بالحلم الذي لا يلمس ولا يشم واقعه!
من هي أول فتات خلعت عباءة الحياء الثقيلة وخرجت من صمتها لتعترف للرجل الذي تحبه أنها تريده؟ من كانت أول عروس أذابت جدار بيت الطين الذي كانت تسكنه لتفقأ فتحة مستديرة تطل فيها على الحبيب وتناجيه؟ من أول امرأة ارتأت انها قادرة على قيادة علاقة شجية دون ان تقع بالمحظور؟ ربما لا نصدق بوجودهن، ولكن ما آل الحال إليه لم يولد اليوم ولا البارحة ..
في المقابل، من هو أول أب اعطى لإبنته الأمان وفتح باب الحوار وآمن ان ابنته لها حق الإختيار بعد معرفة كاملة وعشرة - ولو كانت من بعيد – مع الرجل الذي تحب؟
نحن نكمم الحب، ونلقيه بالأزقة الخلفية ونلقي أنفسنا معه لإن الطرق الرئيسية لم تكن يوما مفتوحة على الصراحة والإعتراف. نحن نسوّغ لأحلامنا ان تنام وتسهر بالظلام لإن الأمل بعلاقة النورلازال معفّر بالذنب حتى وان كان الإقتراب ضمن النطاق الذي لا يوّلد شرارات ولا يفتح نيران.
لازالت الفتيات في مجتمعاتنا مشروع عار الى ان تتزوج، والفتيان مشروع شرف يجب ان يخوض في طرقات الدنيا والسماء الى ان يقترن بفتاة احترفت الظلام ومثلّت عليه جيدا دور بنت النور.
"لو سمحت انا مو صاحبة هالسوالف .. عندك بيت ابوي تعال طق الباب واطلبني منّة"عبارات الشرف المعهودة تلك وغيرها عادة ما ترهف آذان الرجل الغشيم الذي يستمع ثم يصدق ثم ينتشي ويتزوّج الى ان يستر الرحمن الى الأبد، او يظهر المخبوء من جحور الماضي فيعيشان معا احيانا واحيانا يفترقان.
ذلك الرجل الذي يعرف للشرف عنوان واحد وزقاق يتيم، سيفهم متأخرا في الحياة ان للعفة مئة ألف بيت قد فاتها كلها واستقر في بؤرة من خداع وغباء.
 في النهاية .. الأعراف لا تحمي المغفلين.



يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 10

$
0
0

حتىبعد مرور سبعة شهور، لم تكن متطلبات العمل في القطاع الخاص وتوقيته لتنزلق بسلاسة من ريق والد سلمانة الذي كبر ونشأ في منزل لم تعمل فيه البنات. وإن عملن فإما مدرسات في مدارس حكومية وغير مختلطة او في مؤسسات حكومية تضع النساء عادة على رأس الوظائف البسيطة بتوقيت دوام صمّم خصيصا لإمرأة متزوجة وربة منزل. كان وقت العودة المقبول جدا بالنسبة لوالدها هو ذاك الذي يبدأ صباحا باكرا وينتهي قبل ان تفكر الشمس في المغيب. الساعة الثانية عشرة ظهرا، الواحدة، وسيغض النظر قسرا عن عمل الوزارات التي ينتهي الساعة الثانية.

 أن تعود ابنته كل اليوم في الساعة الخامسة كان بمثابة الكابوس الذي اعترى قيلولة الظهيرة الذي تعوّد عليها بعد ان يعود للمنزل من عمله ويأكل وجبة الغداء. اما طبيعة عملها التي تتطلب ان تتأخر احيانا الى السادسة فقد كانت القشة التي قصمت ظهر الصبر والإنفتاح الذي حاول كثيرا ان يقنع نفسه به فباءت كل المحاولات بالفشل.

في ذلك اليوم الذي تأخرت فيه، صلّى المغرب وجلس ينتظرها في صالون المنزل، عندما دخلت همّ واقفا كأي اب غيور، صفع الباب خلفها عندما دخلت مؤذنا ببداية نقاش عسير من الممكن ان ينتهي بقرار او صفعة .. هي ونصيبها!

-        مساء الخير

-        مساء .. بس ما فيه خير

-        اشدعوه يبا .. شصاير؟

نظر لساعته:

-        داخله الساعة سبع وتقوليلي شصاير؟

نظرت لساعتها:

-        يبا الساعة ست وربع

-        الساعة مو ساعة بنت تدخل فيها البيت من الدوام!! انا شدراني انتِ شنو قاعد تسوين طول هالمدة؟

-        يبا و انت شدراك انا شنو كنت قاعد اسوي ست ساعات لماّ كنت اشتغل بالوزارة؟

-        يعني شنو؟

-        يعني يا يبا إللي بتسوي شي مو زين اتسويه بأي مكان وبأي حزّة .. الدور الباجي على الأخلاق والتربية.

-        أنا ادري انج متربية وخلوقة .. بس أنا ما اعرف الناس إللي تشتغلين معاهم!

-        حيّاك الله بأي وقت .. تقدر تزورني في المكتب، تقعد عندي ولشربك شاي واعرفك على كل الناس إللي يشتغلون معاي.

-        أنا ما عندي وقت!

-        انا بنتك .. وانت خايف علي .. لازم يصير عندك وقت!

-        أنا ابيج تطلعين من هالدوام وتدورين دوام حكومي.

-        أنا آسفة يبا .. دوام حكومي ما ينفع لي .. اقعد على مكتب 6 ساعات ما أسوّي شي .. لا يمكن!!

-        شغلي نفسج بأي شي .. قراءة، كتابة .. أي شي

-        يبا هذا شغل .. يعني الوحدة لازم تحلل معاشها، وتسوّي الشي إللي تحبه. المفروض ان شغلنا يسد حاجة الإنتاج والأنجاز فينا!

-        طلعي ودوري لج مكان ثاني .. مو لازم وزارة

-        يعني وين؟

-        الجامعات .. مؤسسات التدريب، المطار، البورصة هذي الأماكن المحترمة، مو شركة ما يندرى شنو قاعد يصير فيها!

-        يبا الشركة إللي قاعد اشتغل فيها من اكبر شركات المقاولات والتجارة العامة في الكويت، شركة معروفة ومشهورة ويشتغل فيها وايد كويتيين.

-        أنا مالي شغل فيهم! انا ما ابيج تشتغلين لمّا الساعة خمس وست.

-        ليش يبا ! طالما انّي مرتاحة

-        انت مرتاحة .. بس احنا مو مرتاحين

-        يعني شنو يبا؟

-        يعني عندج شهر .. تدورين وظيفة ثانية وتطلعين من شغلج.

انتهى الحديث .. وانتهى النقاش وهو يصفع الباب خلفه متوجها لديوانية الليل المعهودة.   

جرت لغرفة والدتها لتنفث ما تبقى في ريقها من اعتراض، توقفت في منتصف الممر المؤدي الى الغرفة الواسعة عندما رأت والدتها تفترش سجادة الصلاة راكعة. نظرت بعيدا في النافذة من وراء كيان أمها الذي يقوم ويقعد، زفرت وتوجهت لتجلس على السرير الخشبي القابع في خلفية الغرفة. عادة ما تجد الفتيات متنفسا في الشجار مع امهاتهن عندما تكتم فيهم رغبة ما. لم تكن يوما صديقة والدها، كان ولازال دكتاتوريا يتوهم الود في وجوههم عندما يتقدمون هي واخوتها لعرينه لطلب أو رجاء. تتقدم خطوة وترجع ثلاث، علها تجد في الطريق سببا يدفعها للعدول عن المطالبة فيما ترغب. تتردد عندما يعتصر كيانها المتزعزع بين عينيه. تستجمع قواها وتسأل:

-        يبا .. ممكن أروح السينما مع رفيجاتي؟

-        لا

تستدير .. وتعود الى غرفتها وهي تقاوم الدموع.

كانت في تلك العمر تحمل في طياتها طلبات بسيطة وطموح ضئيل، كما كانت لا تعرف أن هناك بين لحظة الرفض والإستدارة خيار الحوار والمناقشة! كبرت، وكبرت معها طموحاتها عندما كانت تطالب اكثر بمعاملة ربع مساوية مع اخوتها الأولاد. كانت تراقبهم وهم يرشون العطر الزاكي على ملابسهم النظيفة، يلتقطون اشياؤهم المبعثرة ويتركون المنزل بلا رقيب ولا حسيب. أمها لا تلتفت ولا تهتز، ولا تسأل أين ومتى!

ترى .. أين هي النقطة الفارقة؟

مع تقدم العمر وفورة الشباب تمكنت من المجادلة قيد جملتين مع والدها، فعندما يرفض تسأل لماذا، وعندما يقدم عذرا مهزوزا مثل "لإن باستطاعتك مشاهدة الفلم في المنزل"! كانت تتجرأ وتقوم بتقديم أسباب علمية وأدبية تشرح فيها مزايا السينما عن المنزل. يمصمص شفاهه الغليظة ويعيد الرفض من جديد بنبرة حانقة فتعلم بذكائها وتجاربها السابقة انها ان لم تتوقف سيفقد صبره ويسمعها ما لا تحبه.

مؤخرا فقط .. عندما بدأت فيها الرغبة بأشياء اكبر ومتطلبات اهم استجمعت قوّة كافية لتقف امامه لأكثر من جولتين في صراع حواراتهم الغير متكافئة. كثيرا ما تشعر انه لا يسمعها، هو يسمع ضجيجا عندما تتحدث، و ما ان تنتهي يرفض من جديد ويغادر. نادرا جدا ما تململ من المواجهة وآثر القبول على الرفض ليطرد عن نفسه شبح الظلم. ففي النهاية والدها رجل "عادل"لا يريد ان يظلم احدهم حق الحياة!

فرغت والدتها من التسليم من سجدتها الأخيرة فاستدارت، رمقتها للحظة ثم رجعت لوجهتها، كانت تعلم انه سيبلغها اليوم بالقرار، كما كانت تعلم ان ابنتها ستأتي لتصب جم غضبها وصرخات رفضها المخنوقة في جعبة الأم التي لا حول لها ولا قوة.

-        يما !

-        لا اله إلا الله  محمد رسول الله .. نعم يمّا

-        انتو ليش ما تبون لي السعادة؟

-        ما كو اهل ما يبون حق بنتهم السعادة!

-        عيل ليش ما تهتمون لمّا الاقي شي يفرحني؟ احنا مو اتفقنا اني لازم الاقي نفسي بالشغل؟ هذا انا لقيت نفسي .. ليش ما تخلوني اشتغل بالمكان إللي يحقق طموحي؟

-        يعني اذا كان المكان إللي يحقق طموحج مكان مو زين، وإلا سمعته مو زينة .. شلون نخليج تشتغلين فيه؟

-        ليش انتو سامعين شي عن الشركة؟

-        لا

-        اذن؟

-        لا اذن ولا خشم .. خلاص ابوج مو راضي .. تعوذي من ابليس وسمعي الكلام.

-        يمّا ما يصير اسمع الكلام في شي انا مو مقتنعة فيه! شنو انا ما عندي عقل يقول لي شنو الصح او الخطأ! تبوني اعتمد عليكم في كل شي؟؟

-        طبعا .. احنا اهلج .. اكبر منج وعندنا خبرة اكثر في الحياة، لمّا نشوف ان الشي إللي قاعد تسوينه غلط لازم تصدقينا.

-        قوليلي شنو الغلط في الشغل لمّا الساعة خمسة؟

-        وايد اغلاط .. مافي ريّال راح يتقدم حق وحدة تشتغل لمّا الساعة خمس! اهو يبي ام عيال وإلا كادود؟

صمتت .. وطال الصمت ولا رد لإن النقطة المطروحة على مدخل طموح حياتها العملية ومستقبلها الوظيفي تقذف بثمارها وتصب انهارها في فوهة الحياة الإجتماعية التي باتت هاجس الأحياء والأموات. في الزمن الذي نشأ فيه والداها، كان الزواج والبيت والاولاد هو الشغل الشاغل .. والغريب انه لازال! فالفتاة الى الآن يجب ان تفرش سجادة طويلة حمراء تبدأ من أولى أيام مراهقتها الى ان يأتي النصيب. سجادة الهلا والمسهلا هذه التي تخضبها الفتاة وامها وخالاتها وعماتها وجداتها كل دقيقة ببخور السنع وطيب المنع وعنبر الأخلاق ومسك الطهارة وعطر المظاهر الصادقة كانت ام الكاذبة، يشمها الأزواج المرتقبين من على بعد أميال فيأتون كالذباب .. او لا يأتون!

في الكثير من الأحيان تسحب سجادة المصير هذه بُسط العمل والتفوق والطموح والإنجازات من تحت اقدام الفتيات، فمن أجل عين تكرم الف عين، ولكن احيانا كثيرة لا يمشي العريس على سجادتها الحمراء، ولا تمشي هي على أي بساط!


يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 11

$
0
0
لمتعد تخجل من النوم على الكراسي البلاستيكية في المطارات، فقد عرف صانعوها منذ البداية ان الكثير من الأجساد المتعبة ستغفو عليها وتذهب بعيدا جدا عن جمر الإنتظار. تذكر انها نامت أول مرّة في مطار هيثرو عندما كانت ذاهبة من منفاها الى دبي. ساعات انتظار طائرة الوجهة الجديدة تعدّت السبع ساعات وهي لم تنم منذ اكثر من 12 ساعة. على كراسي احدى البوابات المنبسطة وضعت حقيبة يدها تحت رأسها، لم تكن تريد النوم ولكنها اغمضت عينيها لترتاح من الحاح الضوء، ولم تستيقض إلا والعاملة تخبرها انها لحظة المغادرة! غزاها النوم كدبابات من نمل حاني فاستفحل فيها النعاس .. فلم تعد تسمع او ترى.

منذ تلك اللحظة وهي لا تتوانى من فك عقد الصحوة على البلاط البارد، تستلقي وتسترخي فتنزلق لؤلؤات اليقين واحدة تلو الأخرى، تتقافز هنا وهناك الى ان تهدأ طقطقاتها .. وتنام.

تذكر أنها صحت مرّة في مطار فرانكفورت على يد تتلمسها، كان رجل خمسيني اشعث قد فاحت منه رائحة الكحول، ارتأى جدوى اشباع رغبته الثملة في جسد فتي قد افترش الأرض منهكا من الترحال. وضع يدا مرتجفة في بنطالها! استفاقت لتجد يده الأخرى تهم في التقاط طرف ثيابها! كان سعيدا منتشيا في الكنز الغافي الذي وجده على الأرض. قفزت من مكانها دفعته عنها حتى فقد توازنه وارتمى على الأرض يضحك مجلجلا في أنحاء المكان. كان الوقت فجرا، والمطار شبه خالي إلا من أجساد هي الأخرى اعياها الترحال.

تذكر انها ركلته، عدة مرّات و لم تتوقف إلا عندما توقفت ضحكته المقززة وأخذ يتوسل بالصفح والغفران. قال لها "أنا آسف .. انت لا تشبهين النساء التي نعرفهم .. انت مختلفة .. انت جميلة .. وانا سكران"!

حتى بعد تلك الحادثة لم تتوقف عن سرقة غفوات من عين السفر، ولكنها تبنت تكنيكا جديدا في النوم وهي جالسة وبنصف اغفاءة.

على كرسي بلاستيكي في مطار الكويت، هل تستطيع ان تنام؟ ستلتهمها مئات العيون التي لا تشبع العب من أجساد النساء، ستزحف على جسدها الرابض مئات النظرات مصحوبة بملايين التخيلات البذيئة والتصورات القذرة، ستطوقها عشرات النوايا في الإقتراب وربما اللمس، ولكن لن يقوى احد على تنفيذ عُشر الرغبة. هنا يُكتم نفس الرغبات الجسدية بألف وسادة خانقة، وتُغلف تلك الطاقة البشرية الكامنة بألف كيس قمامة وتلقى في مكب ما بعد الزواج! وان لم يأتِ المهدي المنظر لا يهم، يُحمل الكيس منفوخ الجيفة على وشك الإنفجار ويلقى بعيدا الى ما بعد الحياة، عندما تجد العذراء فارسها الوسيم، ويجد الفتى سبعين من الحور العين.

نامت أخيرا في مطار الكويت، تقرفصت في كرسيها البارد ونامت عن خمس سنوات قضتها ضيفة على مخلوقات الله. نامت في مطار الكويت غير عابهة بالبرستيج الذي كانت تحترفه، ولا العيون التي ستعتليها صعودا ونزولا في مصعد تقاليد واعراف أميرات الرقي والإعتزاز. نامت تحت السماء التي انجبتها ثم تركتها سائحة في سماوات العالم بحثا عن الترياق الذي سيجعلها بجعة بيضاء مثل باقي البجع.


***



تلّقت سلمانة اتصالا هاتفيا وهي في معمعة مقابلة وظيفة في احدى المدارس الخاصة، خنقت الرنين واعتذرت على المقاطعة.
 وضعت المدرسة في الصحيفة اعلانا عن رغبتها في توظيف مشرفة للعلاقات العامة، فقد اشتهرت المدرسة مؤخرا مما دفعهم لتوسيع المبنى بساحاته وفصوله لإستيعاب عدد اكثر من الطلبة، كما انهم بصدد انشاء فرع آخر  في منطقة الأحمدي البترولية لما لها من أهمية اكتسبتها من تواجد فئة غنية ارستقراطية من المدراء الوافدين العاملين في مؤسسات البترول الكويتية الذين ينزحون للكويت بعقود عمل عائلية من الشركة تمكنهم من احضار أسرهم للعيش في الكويت والتعلّم في مدارسها الخاصة الباهضة التكاليف.
أحبت سلمانة فكرة العمل في مدرسة لإنها تحب الأطفال، فالوظيفة – ان حصلت عليها – ستمنحها فرصة لابأس بها في العمل لهم ومعهم، لذلك حرصت على التألق في المقابلة التي مكنتها من تقديم شخصيتها، طموحاتها وخبرتها العملية والعلمية بصورة واثقة وجميلة. أخبرتهم سلمانة عن بعض الافكار التي وضعتها على الورق قبل ان يحين موعد لقائها معهم، بعض الإستراتيجيات التي من المفروض ان تكسب اسم المدرسة سمعة راقية وأداء مشكور في مجال التربية والتعليم. كما انها طرحت ايضا بعض المقترحات لرحلات وأنشطة ثقافية وترفيهية سيتولى قسم العلاقات العامة تنفيذها ما ان تشرف عليه بنفسها. استطاعت الفتاة العشرينية ان تبهر اللجنة ومديرة المدرسة بروحها المليئة بأطنان من الأمل والطموح، وبلغتها الإنجليزية الممتازة.
خرجت سلمانة من المقابلة، ركبت سيارتها وطلبت الرقم الذي هاتفها وهي في المقابلة، رن الهاتف واذا بصوت تعرف ملامحه:
-  سلمانة
-        نعم؟
-        عرفتيني .. انا مريم؟
-        مريم !! شلونج؟  شخبارج؟ انتي بخير؟
-        أنا بخير الحمدالله، عدّت الأزمة على خير وانا الحين بأحسن حال
-        صج؟ والله فرحتيني .. كنت وايد خايفة عليج، انتي وينج الحين؟ رجعتي بيت اهلج؟
-        لا سلمانة ما رجعت ولا ابي ارجع، أمي لمّا الحين ما تبي تشوفني، واخواني بعد إللي سووه فيني لا يمكن ارجع اعيش عندهم. اصلا اهما بعد ما اعتقد ان يبوني ارجع البيت.
-        عيل انتي وين الحين؟
-        أنا عند صديقة .. قاعدة عندها بشكل مؤقت!
-        ومحمد؟
-        زفرة: محمد الله يعينه!
-        شصار فيه؟
-        قصة طويلة .. انتي فاضية الحين ؟ خليني اشوفج
-        اكيد .. وين تبين نروح؟
-        أي مكان!

اقفلت سلمانة هاتفها واتصلت على امها تخبرها انها ستذهب لترى هديل في أحد المقاهي، لم تخبر والدتها ان مريم من ستلتقي بها لإنها مسبقا تعلم أن مريم قد وضعت في قائمة الممنوعات من حياتها. تعلم سلمانة الأثر الذي خلفته حادثة مريم على كل من حولها، وتعلم ايضا كيف انتشرت الحكاية في اوساط نساء المجتمع بسرعة فائقة وتفاصيل مملة حقيقية كانت او مزيفة، فشتمت الأفواه فتاة أحبّت وباعت الكثير بإسم الحب. يعرف الجميع في الكويت ان هناك الكثير من القصص والحكايات المشابهة التي تحاك اطرافها في حفرة معتمة بإسم الحب. تعرف النساء الكثير من الجارات والصويحبات او حتى القريبات اللاتي التقين بأزواجهن قبل الزواج على اكثر من مستوى وأكثر من عمق. ولكن الكل يخرس طالما ان مشروع الفضيحة لازال في طي العتمة.
مريم من وجهة نظر سلمانة لم تخطئ، هي فقط تصرفت اتجاه حبها بخطوات اكثر انفتاحية، ما فعلته مع محمد في ذلك العش أمرا خاص جدا بحدود جسدها، هي الملامة أولا وآخرا، وهي من سيحاسب يوم الحساب .. فلماذا يقف المجتمع قاضيا حاكما بالقيء على انسانة يعلم كل من فيه أن حسابها لابد آت.
تلاقت الكفوف متبوعة بعناق ودود في أحد المقاهي المتربعة في وسط منطقة سكنية محلية قريبة من بيت سلمانة، لم تكن سلمانة خائفة ولا مضطربة لمرأى الفتاة التي كادت ان تموت ضحية مفهوم بدائي للشرف. لقد انتهى زمن الموصومات بتلف الأخلاق، المبصوق عليهن والمنبوذات من مجتمع امتهن الإحتقار دون النظر طويلا الى نفسه! حتى عندما كانت تأتي سيدة لنبي الله تخبره أنها زنت، لم يحاكيها بقرف ولم يلقِ عليها الفاظ صَغار. كان عليه الصلاة والسلام مهذبا راقيا يعرف الإنسان وضعفه، ويعرف ما لهذا الضعف من عواقب وعقاب.
جلست مريم بالكرسي المقابل لسلمانة، هزيلة نحيلة لم تختف من وجهها بعد علامات الجزع. عندما جلست، تعمدّت ان تنزل على الكرسي بهدوء لكي لا تثير نحيب الجرح الذي قبع اسفل بطنها، وبين فترة واخرى تضع يدها اليسرى على الكرسي لترتاح عظامها المهشمة. بلا مقدمات، اخبرت مريم سلمانة باليوم الذي كتب عليها اخوتها الموت، محاولات الإيلام والتعذيب كانت اكثر وقعا عليها من القتل السريع. كانت ترى الشرار في عيونهم، يتلذذون بالضرب والركل والإذلال، حتى ان اخيها الأوسط وضع حذاءه على وجهها لكي يثبت رأسها عن الحركة وليتمكن أخوها الصغير من كسر فكيها برجله! قالت انها لم تتوسلهم ان يتوقفوا، لم تستجديهم الرحمة، ولم تفتح فمها برجاء. كانت تعلم ان محاولاتها لن تجدي في رجولتهم المصطنعة ولن توقف هوجة البركان. طوال اعمارهم كانوا يسمعون أن الفتاة عبئ على الكاهل، يسمعون أن البنت لا تأتي إلا بالمصائب! فما المانع من كسر جمجمة المصيبة التي أتت عنوة لتنغص عليهم عالمهم الذكوري. كانوا يعلمون ماذا يريدون، يريدون التخلص من الحمل الثقيل عندما اعطاهم ذلك الحمل سببا وجيها لا رجعة بعده. حتى عندما اخبرتهم ان محمد مستعد لخطبتها والزواج منها في نفس اللحظة الذي طعنها فيها فوّاز اخيها الكبير – في بطنها، لم يتوقف، بل زاد قوة الانقضاض!
سألتها سلمانة ان كانت تتألم، فأخبرتها ان ألم الذل على ايدي مدنسّة بنفس الخطيئة كان اكبر من كل شيء.
يسترجعن هي وسلمانة بصمت ما كان يحدث في أيام المراهقة المبكرة، كل في ذاكرتها .. وحدها. عندما كانوا يتسللون الى غرفة اخيها الكبير عندما يغادر المنزل، فيجدون عشرات من صور الفتيات العاريات. يستمعون الى عشرات الأشرطة المسجلة التي كان يحتفظ بها فوّاز في خزانته، كلها توّثق محادثات طويلة وأحيانا بذيئة مع فتيات اغلبهم ارادوه زوجا فأطاعوا نزواته علّها تعجل بالنصيب.
لازلن يتذكرن تلك الفتاة، كان اسمها سحر، التي سجلها فوّاز وهي تبكي حرقة الخوف عندما كانت تخبره ان والدها عرف بشأنه، وقد ضربها وهددها ان لم يتقدم لخطبتها فإنها لن تر الشارع من جديد، وسمعن كم كان فوّاز حقيرا باردا عندما اخبرها ان ظروفه المادية لا تسمح للزواج، وأنه صغير على اتخاذ مثل هذه الخطوة الكبيرة. أخبرها ان تصبر وتحتسب، فستجد يومامن الأيام رجلا يتزوجها، ولم ينس ان يرش الملح على جرحها الغائر عندما نصحها بأن لا تكون سهلة رخيصة مع الآخرين مثلما كانت معه، فعندها لن يتزوجها أحد!!
لازلن ايضا يتذكرن عندما حاول الأخ الأوسط جاسم ان يوقع صديقتهم جنان بشباكه، عندما كان يتبعها الى بيتها بعد زياراتها لأخته، وعندما قال لها انه حقا معجب بها ولكنه يؤمن بالتعارف والتلاقي لفترة "تتآلف فيها الأرواح"قبل أن يتم عقد القران! جنان كانت ذكية ولم تقع بالشباك.
 حتى أخيها الأصغر حميد لم تخلو حياته من مبادرات قد احترفها الشباب في هذا البلد، فرضوا بها على أخوات الغير وحرّموها على نساءهم. هل هو جهل؟ أنانية؟ او غباء توستوستروني في أبسط معطيات الحياة قد غلفه غشاء الأعراف الفضفاضة، واسعة عليهم وضيقة على الأنثى من حولهم، فلم يعودوا يبصروا مصباح النور الخافت الملقى عميقا داخل دهاليز أي امرأة؟
أفاقت سلمانة من الصمت الذي اطبق فجأة زائرا قسريا على الحوار وسألت مرّة أخرى عن محمد؟ اين الرجل الذي وعدها بالزواج؟ الذي اقسم انه يحبها، انه لن يتركها؟ الذي – مثل باقي الرجال – وضع لها الشمس والقمر في قرطي من الألماس اشتراهم لها من تيفاني هدية لها دلالة على حبة ودليل قاطع انه لها؟
امتلئت عينا مريم بالدموع وهي تخبر سلمانة أنه اختفى، بعد خروجها من المستشفى بحثت عنه في كل مكان! سألت كثيرا الى ان استجمعت كل ما تبقى لها من جرأة واتصلت بأمه لتسألها عنه. ادركت مريم من نبرة صوت والدته انها تحملها ذنب ضياع ابنها، صرخت أم محمد في وجه صوت مريم على الهاتف بعدما فهمت الأخيرة من حوار الضجيج ان محمد في السجن! لفق له اخوتها تهمة حيازة مخدرات ورموه بعيدا في أحد السجون ينتظر أولى جلسات الإستماع في المحكمة. لم تكن مريم تقوى على كتمان العويل، فقد أز الجرح دما وقيحا الى ان جفّت سوائل الألم في قلبها، هي مشتتة ومشوهة ولا تعلم ما المصير! اين ستذهب؟ ماذا ستفعل؟ من اين تبدأ؟ ومتى سينتهي الكابوس! سألت بحيرة:
-        سلمانة .. شسوي؟
-        رتبي اولوياتج مريم .. سألي نفسج أول شنو تبين .. انت شنو تبين؟
-        ما ادري .. انا ضايعة
-        لازم تلقين الطريج
-        كل شي مسدود بويهي!أنا محرومة من شوفة أمي واختي، محرومة من اني آخذ ملابسي، سيارتي، تلفوني، محرومة من بيتي!
-        رجعتي الشغل؟
-        الأحد الجاي أول يوم
-        والسكن؟
-        أنا قاعدة عند نيفين، صديقة فلسطينية من الشغل، أنا ضيفة عندها لمّا اعرف وين بروح.
-        كلمتي أمج؟
-        ما تبي تكلمني، ومنال خايفة تكلمني، لإن لو دروا انها تتصل فيني راح يكون مصيرها مثل مصيري.
استمعت سلمانة طويلا لذلك الكيان الأنثوي الدافق الذي خسر كل شيء! الأبواب الموصدة في وجة مريم كانت ايسر ما كان ينتظرها. اين تذهب امرأة موصومة بكدمات الفضيحة واضحة مثل الشمس على جبينها؟ هل حقا سترجع مريم لعملها يوم الأحد؟ هل ستجد الجرأة الكافية لتواجه العيون التي امتهنت التحديق في كل شيء؟ هل فعلا ستعرف مريم كيف تعيد بناء اسم ملوث رقص في الأفواه الى ان هلك وسقط؟
في الكويت، عرف الناس الذين عادة ما يجدون متسعا من الوقت، كيف يملؤون الفراغات الطويلة في أيامهم، يتكلم الشعب هنا اكثر مما يفعل اي شيء آخر، ولإن البلد صغيرة وجميلة،  تنتقل الأحداث والأخبار والنميمة اسرع من الضوء الذي يأتي كل يوم من بلاد الشمس ليشق اول خيوط الصباح.

عاهدت سلمانة صديقتها بأنها ستساعدها قدر المستطاع، ضمتها الى صدرها من جديد قبل ان تغادرها، علها تثبت لها ولنفسها أنها لا تزال تؤمن في داخلها بالبدايات الجديدة!



يتبع ...


( سلمــــــــــــــــانة ) 12

$
0
0
رحب والد سلمانة بالفكرة عندما اخبرته انها ستعمل في مدرسة، وقطّب جبينه عندما عرف انها مدرسة خاصة مختلطة تمتد ساعات العمل فيها الى الساعة الثالثة! صمت قليلا عندما عرف ان المدرسة تحتل موقعا قريبا من منطقة سكنهم، وناقش معها موضوع ان العمل بتلك المدرسة الخاصة سيتطلب احيانا من سلمانة ان تعمل الى ما بعد الساعة الثالثة! ولكنه آثر الموافقة عندما علم ان أولاد اخيه الصغير – عمها – يدرسون في ذات المدرسة، وأنها في النهاية ما هي إلا موظفة في "مدرسة".

هي لا تعلم كيف يفكر والدها، ولكنها أحيانا كثيرة تحاول ان تضع نفسها في مكانه: رجل خمسيني متقاعد يقضي جل وقته في ديوانيات الرجال متوسطي العمر، يقرأ المجلات المحلية المتخصصة بالجريمة والفضائح، ويستمع الى ما يقوله اصدقاءة من الرجال الذي عادة لا يشغل وقتهم سوى اجترار القصص المخيفة والوساويس المتهالكة.

تذكرت كم كان والدها مرعوبا من الإنترنت عندما طلبت منه اشتراكا للشبكة، مبررا هلعه بقصة ابنة اخت صديق صديقه التي بدأت في مواعدة الرجال بعدما عرفت طريقهم من دور المحادثات العامة على الشبكة العنكبوتية، ناهيك عن الفتيات اللاتي سمع انهن يتنقلن بين مواقع العري والجنس مكتسبين ثقافة لا داع لها. وافق على مضض في نهاية الأمر عندما اخبرته أن الكويت تمنع تلك المواقع المشبوهة نهائيا من أفقها، وأنها غير مهتمة بمحادثة الغرباء بقدر اهتمامها بمحادثة صديقاتها وقريباتها على الماسنجر.

دار هذا الحديث منذ اكثر من ثمانية سنوات خلال سنين مراهقتها، ولكنها بقرارة نفسها تعلم ان والدها يفكر بعقلية الدواوين التي يرتادها، والرجال الثرثارين الذين يجالسهم والذين لا شغل لهم إلا اجترار سيرة الفضائح!

فازت سلمانة بوظيفة المدرسة، وشمرت عن ساعديها لتثبت للمديرة ومساعدها أنها قادرة على تولي المنصب والقيام بكل ما هو مطلوب. فبدأت سنتها الدراسية الأولى بتنظيم حفل تعارف صغير للهيئة التدريسية والإدارية في المدرسة خصوصا بعد انضمام طاقم جديد من المعلمين والمعلمات الأجانب الى مجموعة الموظفين. تألقت سلمانة بالإفتتاح، وأخذت على عاتقها ان يعرفها الجميع من اول يوم لتكون بذلك الوجه البارز للإدارة، ونقطة الوصل بين هيئة التدريس والإدارة.

رحبت بالجميع، وأخذت تعرف عن نفسها بإتقان وبلغة انجليزية ممتازة حتى دهش اعضاء هيئة التدريس الأجانب من بلاغة الفتاة المحلية وذكائها. كما انها ضربت عصفورين بحجر عندما أصرت على والديها ان يحضرا حفل التعارف لتطمئن قلوبهم ان المحيط الذي ستسبح فيه ابنتهم خالي من اسماك القرش والحيّات السامة. حضر والدها بدون امها، وقد استطاعت من بعيد ان تلمح ابتسامة رضى متوارية خصوصا عندما قامت مديرة المدرسة بنفسها في ضيافته وامتداحها له. أحب والدها المجتمع الجديد الذي ستنغمس فيه ابنته، ووجد في محيط العمل الأجنبي الجاد والصارم عزاءا كبيرا عن مواقيت العمل "المتأخرة"، فهم في النهاية ناس بمنتهى الحرفية لا يجدون وقت للعب وتضييع الوقت.

عندما رجعت البيت، استقبلها بحنان، وسمعته عندما كانت تهم بالخروج من غرفته يخبر والدتها انه فخور بها.

ابتسمت سلمانة ونامت ليلتها بهدوء


***

منذ ان تركت الكويت اعتزمت ألا تعود، أخبرت كل من يحبها أنها لن تعود! فما رأته داخل هذا البلد الصغير كان اكبر بكثير من اعطاء علاقتهما بالأرض محاولة أخرى، لم يكن الأمر من وجهة نظرها يحتمل مبادرات صلح. ادركت ان الوطن لا يحبها فقررت هي الأخرى ان لا تحبه. لملمت كل الذكريات السعيدة التي جمعتها بلحظة وئام مع الوطن، وضعتها في صندوق حديدي صغير بمفتاح، اقفلت الصندوق واضاعت المفتاح.
هي الآن لا تحتاج للذكريات، فقد قررت ان تصنع باقة جديدة من الذكريات تلملمها من كل بقعة تزورها، علها تعادل ما كانت تملكه من حنان الوطن. اقنعت نفسها ان الترحال أجدى من البقاء، وان الرحيل سيسد نهرالألم داخلها فتنسى الماضي وتدخل عالم الأمل من جديد.
عندما اعتزمت الرحيل، عندما مسكت جواز مصيرها بيدها احتارت اي البقاع ستطبع على جبينه، دولة شقيقة؟ ابنة عم بعيدة؟ أم بلد غريب لا يمت لدمها العربي بصلة!
كالمجنونة اشترت خريطة العالم ومجسم للكرة الأرضية، وأخذت هي واصبعها –كل يوم- يبحثان عن الوجهة الجديدة. كانت تغمض عينيها، تدور حول نفسها، ثم تضع اصبعها الأعمى على صدر الخريطة، تقرأ اسم المكان فلا يعجبها وتعيد المحاولة. تدير الكرة الأرضية أمام عينيها، تلف الكرة ولا تتوقف إلا عندما ترغمها بإصبعها على الهدوء، تقرأ المكان .. لا يعجبها فتعاود الكرّة!
فتحت عينيها على يد تربت على كتفها، قطبت جبينها لترى عاملة هندية من العاملات المسؤولات عن نظافة المطار تقف فوق رأسها، كانت العاملة تحدثها بلغة عربية ركيكة لم تستطع فهمها في بادئ الأمر، ولكنها عرفت من الإبتسامة الحنونة التي كانت ترتسم على الوجة المنهك أن تلك المرأة الفقيرة .. تنوي لها خيرا.
انتصبت على الكرسي وأعادت الإبتسامة، هزت يدها لتستفهم اكثر عن ماذا تريد المرأة:
-        انتي يبي نوم؟
هزّت رأسها بالنفي
-        انت واجد تأبان !! مسكينة حبيبي .. تعال .. انتي نوم في آنا غرفه.
-        NO ..no .. thank you
-        انا ماكو انغلش
استدركت:
-        لا .. مشكورة أنا ما يبي نوم .. خلاص
-        ليش؟ حبيبي انتي بنتي هلوة .. ما ينام هني .. كله ريال شوف!
-        مايخالف
-        لا مايخالف .. ما يصير انتي نوم هني !
-        مشكورة
نظرت الى الأسم المكتوب في بطاقة تعريفية على صدر المرأة
-        مشكورة فريدا
-        انتي وين زوجي؟ اخوي؟ ما أحد ييجي ياخذ؟
-        لا فريدا .. آنا يروح بيت بعدين ..
-        متى؟
-        I have no idea
بعصبية:
-        أنا ماكو انغلش!
ابتسمت لطرافة فريدا:
-        فريدا .. انتي شنو تبين؟
-        أنا ما يبي بنتي ينام هني .. مو زين!
-        بس أنا دايما  سوي نوم في مطار .. مطار فرنسا، مطار امريكا، مطار ساوث افريكا، مطار انديا
-        انتي يروح انديا؟؟
-        يس
-        أنا تلاته سنة ماكو يروح انديا .. بنتي تلاته سنة ما يشوف!
-        ليش؟
-        لازم يجيب فلوس .. بنتي شادي كارو .. زواج
-        فريدا .. الله يعينج
-        انشاالله .. الله كريم
-        انا يروح يشتري قهوة .. انتي يبي قهوة؟
-        No .. coffee No
بعصبية مصطنعة:
-        فريدا .. أنا ماكو انغلش!!
تركتها فريدة لتستلم مناوبتها في تنظيف حمامات النساء في المطار.
وهي تجلس هناك تقابل كوب قهوة، استعادت ذكريات العمر الذي قضته هنا، عندما بدأ على ايدي الخدم، وانتهى على دموع الخدم. في لحظة نادرة في البيوتات الكويتية، تتحول الخادمة احيانا الى انسان له قيمة، خصوصا عندما تتنحى الأم انشغالا بأشياء اخرى، فتخطو الخادمة خطوة للأمام، تجعلها أحيانا صديقة حنونة، واحيانا كثيرة أما .. أولى!
 في المقهى الذي جلست فيه، كانت تلمح اطراف بوابة الخروج الكبيرة، تلك الفوهة التي ستلفظها لبطن الكويت. منذ اكثر من خمس سنوات لم تر وجه الكويت، تتذكره اسمرا بلون صبغة الشمس البرونزية، عينان من لؤلؤ، وشعر اسود طويل منسدل، ياقة مرتفعة وتاج من تاريخ وحلم وأمل.
على الرغم من كل ما حصل، وعلى الرغم من كل نوبات الغضب واختلاف وجهات النظر وسوء التفاهم والفراق، تجد نفسها تفهم الكويت .. وتعذرها!




يتبع ...

( سلمــــــــــــــــانة ) 13

$
0
0

عندما رأته سلمانة لأول مرّة يدخل من بوّابة المدرسة الحديدية ابتسمت، فلم يكن يعطي شكله ذلك الإنطباع الذي ارتسم داخل مخيتلها عن المدرس او الأستاذ التقليدي. شاب صغير، قامة طويلة معتدلة، بشرة بيضاء يتخللها احمرار من جراء شمس الخليج التي لعبت دورها  على جلود البيض القادمين من القطب الشمالي. شعر بني فاتح تعترضه خصلات افتح لونا من بقية الشعر الذي يغطي رأسه. نظارة طبية بإطار ازرق داكن، شفتان حمراوان لا تصلح لأن تكون لرجل وفقا لمعاييرها الخاصة للرجولة التي تجرعتها مع قهوة السحنات العربية التي اعتادت عليها. بنطال جينز وقميص ازرق بلون السماء مع خطوط بنفسجية فاتحة.
شكل الأستاذ الجديد الذي وصل متأخرا جوناثان ديتمان وهو يخطو اولى خطواته في الكويت، وفي المدرسة الأمريكية النموذجية يدل على كومة كبيرة من الضياع!
استقبلته مديرة المدرسة مسز كاندنس المشهورة بإسم تحبب عادة ما ينادونها به الموظفات وباقي المدرسات بمسز "كايندنس"دلالة على طبيعتها الرقيقة وطيبة قلبها خصوصا في التعامل مع الطلبة الأطفال، والفقراء من موظفي وفراشّي المدرسة.
أخذته مسز كاندنس الى مكتبها، كان يتبع كتلة جسدها الضخم باحترام وهدوء، حتى انه يكاد يختفي من ورائها. ادخلته الى مكتبها وحدثته طويلا عن المدرسة، الطلبة، معايير التدريس ومستوى التعليم وجودته في مدرستها. أخبرته عن المنهج المتبع، حقوقه وواجباته، المطلوب منه، وكل ما يجب ان يتوفر فيه من اخلاق وتصرفات خصوصا في التعامل مع الأطفال الكويتيين المدللين واولياء امورهم من الطبقة الارستقراطية، كان ينصت بإمعان ويسأل اسئلة متعلقة بالموضوع المطروح.
جوناثان ب. ديتمان، مدرس الرياضيات الجديد استلم موقعه في المدرسة النموذجية في ذلك اليوم بالتحديد الذي اصرّت فيه مسز كاندنس على سلمانة أن تأخذ المدرسين الجدد كل حسب موعد وصوله في جولة تفصيلية لكافة مرافق المدرسة وفصولها. تشرح لهم في هذه الجولة عن كل ما يتعلق بالمدرسة والتدريس وتجيب على كافة اسئلتهم. كما انها – فيما بعد -يجب ان تجتمع بهم جميعا لتعطيهم لمحة مختصرة عن آداب التصرف والحديث في المجتمع الكويتي، مستطردة في مختلف الممارسات المرفوضة والمقبولة اجتماعيا من قبل الكويتيين. نادتها مديرة المدرسة بعد ان انهت حديثها الطويل مع جوناثان، عرفتهم ببعضهم ليقف المعلم الجديد، مدّت يدها لتصافحه فاضطرب. أخذ طرف كمه وسحبه ليغطي كفه كلها، مدّ يده المغطاه كليا بشكل معوق اتجاهها ليصافحها، ابتسمت سلمانة وهي تكتم ضحكة صغيرة مليئة بالإستغراب وسألته بإنجليزية جميلة:

-        مستر ديتمان .. ما تفعل؟
-        باضطراب وتردد:
-        انا اصافحك!
ضحكت:
-        اين يدك لكي اصافحها؟
-        أوه .. اعذريني.
 اخرج يده من كم قميصه وصافحها برسمية متناهية.
- أنا آسف!
نظرت في وجهه الخجول كثيرا وهي تخبره عن المدرسة، تسوح به بين الفصول والساحات والمراكز التعليمية. تكلمه بحرفية عن كل ما سيجده متوفرا له وتحت امرته، كل ما سيحتاج اليه، وكل ما سيطلبه من مستلزمات في المستقبل. لجوناثان ب. ديتمان عينين عسليتين بلون الكاراميل، ورموش طويلة جدا أحيانا تنحني للأعلى عندما تلامس اطار نظاراته. في البداية بدا متوترا ومرتبكا، ولكنهم ما وصلا الى صالة الألعاب الرياضية الواسعة حتى ترك توتره يجري للبعيد وسألها:

-        هل درستِ في امريكا؟
-        لا .. أنهيت دراستي الجامعية هنا في الكويت
-        هل عشت يوما في امريكا؟
-        لا
-        لغتك الإنجليزية متقنة جدا، لكنتك امريكية صرفة!
-        أنا ما نطلق عليه هنا اطفال التلفاز مستر جوناثان، لقد تعلمت لغتين عن طريق التلفزيون فقط .. الإنجليزية والهندية.
-        شيء رائع .. ألا تدرسون اللغة الإنجليزية في مدارسكم الحكومية؟
-        نعم ندرسها، ولكن المناهج المتوفرة ليست بالمستوى المطلوب، عادة ما تكون مخرجاتنا ضعيفة جدا.
-        أنا لا اصدق أنك تعلمت اللغة بهذه الجودة لوحدك
-        الممارسة جزء كبير من التعلم، احرص على ان تكون لدي صداقات ناطقة باللغة الإنجليزية لكي اتقنها ولا انساها.
-        شيء رائع
-        شكرا
وصلا الى قاعة الكافتيريا، فقدمت له فنجان قهوة، وجلست على طاولة في كرسي مقابل. التفت يمينا وشمالا وسألها:
-        هل لي بسؤال؟
-        تفضل .. أنا هنا لأجيب عن كل الأسئلة.
-        قيل لي ان مجالسة النساء الكويتيات على طاولة واحدة من اخطر الأمور، فأهلها او قبيلتها من الممكن ان يقوموا بقتلي!
ابتسمت .. ثم قهقهت عاليا:
-        من الذي قال لك هذا؟
-        صديقي، كان جنديا في العراق
-        صديقك مخطئ ولكنه مصيب في نفس الوقت.
-        هه؟
-        هناك الكثير من التصنيفات المجتمعية التي ستعرفها بنفسك ما ان تتوغل اكثر في معرفة المجتمع الكويتي، هناك نساء لا يرغبن في الحديث مع اي رجل سواء كان كويتيا او اجنبيا. وهناك نساء وفتيات اكثر انفتاحا خصوصا في علاقات العمل والدراسة. المجتمع الكويتي صغير مستر جوناثان، ولكننا في دائرتنا الضيقة نتبنى الكثير من التوجهات والأطباعات والمعتقدات التي تختلف من اسرة الى اخرى، ومن بيئة الى اخرى.
يبتسم ويبدو مشاغبا:
-        اذن انا الآن - وفي هذه اللحظة بالذات - لست بخطر!
-        لا .. انت بأمان.
-        أوه شكرا للرب
ضحكا، ووقفت لتدله على غرفة المدرسين وعلى الفصل المخصص لحصصه الدراسية، وما ان وصلت الغرفة حتى استأذنته للرحيل الى مكتبها وقد ابلغته انها ستكون هناك ما ان يحتاج لأي شيء. هز رأسه ممتنا ومد يده للمصافحة، سحبت كمها وغطت كامل كفها وصافحته، ضحكت كثيرا عندما اعتذر مجددا عن سوء المعلومات التي اخبره بها الصديق ذاته، الذي كان جنديا في العراق.


***

في أحد حمامات النساء المتناثرة على اطراف المطار جلست تقضي حاجتها، تعلمت منذ رحلت للبعيد، انها لن تحظى بتلك الجودة العالية من مستلزمات النظافة تجلس بجانبها على كرسي الحمام البارد. تعلمت منذ خمس سنين وبالطريقة الصعبة أنها يجب ان تنظف اطار التواليت بمحارم ورقية تملؤها بالصابون الساءل، ثم تجففها جيدا بمحارم جافة، وقتها فقط تستطيع ان تضع جسدها على الإطار وتطلق ما بها من احتقان. هناك، تعلمت ان البشر في عجلة من امرهم، لا يعترفون بمقدار النظافة الذي تربت عليه منذ طفولتها. يتركون الحمام غير عابهين بما علق بهم من اوساخ، يكملون يومهم ولاتزال النجاسة تتدلى على أطراف اجساهم. لم تتأقلم مع اللامبالاة في بادئ الأمر، كان الموضوع الخفي اصعب بكثير مما كانت تتوقع، الى ان تركت الماضي يذهب بكل شلالاته ونوافيره ويأتي حاضر مليئ بالعجف والجفاف.

 رشاش الماء المعلق على جانب المقعد اضحى مع مرور الوقت ترف قديم يذكرها بأيام عزها. حماماتهم هناك خالية من الود، باردة ومتسخة في اغلب الأحيان، وان كانت نظيفة، فلابد ان تفتقر الى أهم شيء .. الماء!
عندما جلست في حمام مطار الكويت بكت بهدوء لكي لا يسمعها أحد! بكت لإن الإطار كان نظيفا، وكان هناك انبوب ليرش الماء عليها ما ان تنتهي. احسّت مرّة أخرى بالدلال، بلمسة من نعيم الماضي .. بعدما كانت تمسح مخلفاتها بمحرمة ورقية يتيمة تبقي على اوساخها اكثر ممّا تخفي. أحسّت بسعادة عارمة تجتاحها عندما شعرت بتدفق المياة كريمة دافئة تغسلها من جديد.
يتبع ...

زائر الليل ..

$
0
0


لم نكن على خلاف .. كانت الفكرة محاولة جيدة مني للخروج عن المألوف، القفز بعفوية لخارج الصندوق! او ربما العدو فوق حواجز الوقت والملل!  لم لا نجرب ما يخاف منه الأزواج الآخرين. عندما اقترحت عليه ان ننام بغرفتين منفصلتين، استصعب الأمر، رمقني بنظرة الـ "puppy"التي يجيدها جيدا :
-       لا ما راح تكسر خاطري .. تعبت من الشخير!
-       اوكي راح أعالج ..
زوجي من هؤلاء الرجال الطيبين، ربما لأنه احترف منذ زمن طويل وضع نفسه على الهامش والتفكير الصادق بمشاعر الآخرين، ما يتعبهم وما يحزنهم! عندما يصل لأجوبة يبدأ تلقائيا ببذل مجهود أصيل ليزيح عنهم الغمامة. هو من هؤلاء الرجال الذين إن تمكنوا من إزالة كرب أحدهم شعروا أنهم "سوبر هيروز"يساعدون الناس ويحمون العالم من الشرور!
-       لا ما ينفع تعالج .. صار لك سنين وأنت تجرب مخدّات طبية، وكشنات تقويم الرقبة، ولصقات الخشم، ماكو شي نفع معاك ..
-       حبيبتي .. والله تبين تخليني بروحي بالليل ؟ منو يدفيني؟
-       اسم الله عليك انت فيك حنية تدفي بلد ..
-       انزين .. والـــ !!

كأي رجل .. يجب أن يفكر بالجنس! لو لم يسألني هذا السؤال لتكونت غمامة رمادية من الحزن داخلي! حتى لو لم نكن معاريس جدد، حتى لو لم نعد نمارس حقنا لبعضنا إلا في أوقات نادرة، حتى لو عفا علينا الزمن ونحن في كنف بعضنا، حتى لو زالت شرارة الشغف من حياتنا، حتى بعد أربعة أطفال أكبرهم أصبحت في الجامعة .. كان يجب أن يخاف زوجي من فكرة أنه عندما يريد .. لن يجد!
-       لا تخاف .. كل ما ولهت علي تعال زورني، ترى أنا مو رايحة بيت ثاني!.. كاني خطوتين وتلقاني، تسحّب لين عندي مثل الحرامي وإنسدح بفراشي وسو كل إللي تبيه. المفاجآت حلوة وكل شيء يونّس بالبوق!
اعتقد ان تكنيك محاولة الإقناع الممزوجة بالتشويق والإثارة نجح في جعله يفكر بعلاقتنا الزوجية بطرق أخرى مختلفة. مثيرة فكرة ان لا يجدني بجانبه ليلا، خطيرة فكرة أن تهزه شهوته وتزيحه عنوه من الفراش فيأتي كالأيام الخوالي تسيره غريزة الصيد. الاندساس الليلي في فراشي، الشعور الفجائي بالجسد الناعم، أن يوقظني بقبلاته في منتصف الليل هكذا بلا مقدمات .. يأتي كالذكور الأوليين "سي السيد الحِمش"لأخذ حاجة، انتهاك أنثى بشغف الحب لا العنف .. ثم الذهاب بعيدا الى مرتعه الخاص .. عرينه البعيد.
-       وبعدين تخيلني وأنا مشتاقة لك .. أزورك بالليل وأصحّيك بولهي .. ما راح تستانس؟
اشرقت بوجهه ابتسامة حقيقية :
-       يعني بتصيرين زائر الليل؟
-       إي ..
يتنهد .. ينظر لما بعد بحر عيناي بورع البحّار الذي للتو أبصر ملامح شاطئ من بعيد ..
-       أحلى زائر ليل !!
عدّت الليلة الأولى على خير، لم نزر بعضنا، ربما لأنني كنت غارقة في نوم بلا شخير، وربما لأنه كان يعلم أنني في داخلي أريد أن استمتع مليا بليلتي الأولى في مملكتي الخاصة! نمت ملئ جفوني، في لحاف لا يسرقه أحد، على وسادة رششتها بعطري المفضل، بعدما قرأت كتابا رائقا لا تقطعني عنه موسيقى الراديو او صوت التلفاز الذي عادة لا ينام زوجي إلا على ثرثرته. قرأت قصصا حقيقية عن "الحب في زمن العبودية". على الرغم من انتهاك الروح والكرامة في ذلك الزمان، إلا أن الحب كان لابد أن يجد للنفوس المكسورة طريق مرصوفة بالشغف، فيعيد إليها رونقها ويجعلها تتنفس شبق الحياة. غفوت على حوارات العشق تينع من عمق القهر، وصحوت على وجه الـ "puppy"من جديد يخبرني أنه لم ينم جيدا .. قبلت جبينه وضممته حنانا دافقا الى صدري :
-       راح تتعود حبيبي .. المرة الأولى دايما صعبة
صنعت له إفطارا شهيا ذلك الصباح، عصرت له عصير البرتقال ونثرت فيه حبات الرماّن التي يحبها، أخبرته أنني اشتقت اليه وأننا يجب ان نخرج للغداء سويا كحبيبين جديدين يحكيان لبعضهما عن وجع مسافات البعد ولظى الفراق. ابتسم، ووافق! لا أعلم متى كانت المرّة الأخيرة التي حرصنا فيها على موافقة جدول أيامنا المزدحمة لكي نرى بعضنا في منتصف النهار تسلسلا شقيا من مكاتبنا الفارهة! لا اعلم متى آخر مرة أطعمني فيها لقمتي الأولى بيده، ومتى آخر مرّة قص لي من ديوان شعر قصيدة رآني بين أبياتها وألقاها على مسامعي في جلسة صفاء! في الحقيقية لم أتذكر أنه يوما كتب لي بنفسه شيئا كان يجول بخاطره وقرأه لي بيما تغرورق عيناي من روعة اللحظة ! كانت الأمسية ساحرة، أخذتني نجمة على ذراعها وطارت بي في سماء الليل، أمد يدي وأنا على متنها لألمس رداء السماء المخملي. في تلك الليلة .. ليلتنا الثانية بعد الانفصال .. اغتسل ..ارتدي بجامته وتعطّر، مشط شعره كرشدي اباظة واندس في فراشه، وقبل ان تغفو عينيه قام ووقف عند باب غرفتي وسألني إن كان سيأتيه اليوم .. زائر الليل ؟!   
Viewing all 40 articles
Browse latest View live